النباء اليقين

صرخة حنان!

“حياةٌ ليست مكرسة لهدَف، حياةٌ لا طائل من ورائها، هي كصخرة مهملة في حقل بدلاً من أن تكون جزءا من صرح” الجملة السابقة هي لخوسية، ومن أراد معرفة الرجل فقد تحدثت عنه بشكل موجزٍ ومُلخَّص ومُفيد؛ في موضوع سابق بعنوان” مسك الختام للعام 2017″ ..
حادثةٌ حدَثت في إحدى الجامعات في صنعاء، أشعَلَتْ في رأسي العديدَ من الأفكار، وقرعَت في عزيمتي جرس الإنذار، وقد تبدو سهلةً بسيطة عند الكثير، لكني لا أراها كذلك، بل أعتبرها رسالة لإصلاحِ البابِ المخلوع..
وقبلَ أن أُحدِّثكم عن الحادثة، لابُدَّ أن آخذُكم إلى بعضِ ذكرياتي في الجامعة، فقد كانت دُفعتي لا يوجدُ بها طالبٌ واحِدْ من محافظةِ صعدة، ولا طالب من محافظة الجوف، وكان بها طالبٌ واحد من محافظة عمران، ولا أُبالِغْ إن قُلتُ لكُم أن نصف الدُّفعة من محافظةٍ واحدة والحالُ مثل الحال في كل الدُّفعات. رُبَّما للبعض تفسيرات مُختلفة، لكن الحقيقة الأكيدة هي أنَّ هُناك “لوبي” أو فلنُسمِّها “عصابة” كانت وراء تهميش وإقصاء وإبعاد أبناء هذه المُحافظات..
ولَم تقتصِرْ القصة على هذا الحَد من الإجحاف، والظلم، بل كان الأدهى والأمَرْ ألا يتم قبول أي طالِب للماجستير والدكتوراه من تلك المُحافظات، مع إضافة ذمار وصنعاء ، ولم يكُنْ يُفلِتُ من هذه القوانين الخَفيَّة إلا من امتلكَ واسطةً فولاذية، يستطيعُ بها اختراق اللوبي المُتَلوِّن الزِّئبقي في الجامعة  أو العصابة الحاكِمة والمُتحكمة..
ومِمَّا يؤسفُ لهُ كثيرًا أن البعَثات للخارج للدراسات العليا، كانت تأتي لنا بدكاترة لا أستطيع وصف حالة ضعفهم وإمكانياتهم وفيهم ولا أبالغ من يكون متوسط الطلاب أفضَلَ منه، ولولا أنَّهُم كانوا أساتذتي يومًا ما؛ لسردتُ أسماءهم بكل سهولة..
ولتصحيح الوضع المُختَل بكامله؛ جاءت ثورة 21 سبتمبر؛ وبدأت تؤتي أكلها بسرعة، وجُنَّ جنون آل سعود، بعدَ أن أدركوا أن الشعبَ اليمني سيخرج من أقفاص التَّحكم، وخرائِطَ السير المُعَدَّة من قِبلهم، وجاءت عواصف الشيطان بخيلها ورَجْلِها، وهاهي الحربُ في عامها الثالث، وقد أصبحَ فيها  العدو بفضلِ الله وقوته وقيادتنا الحكيمة الشجاعة؛ لا يستطيع ستر عورته مع أنه قد جلبَ مرتزقة من أنحاء العالم، وكانَ وما يزال لأشبالنا الأبطال في كل جبهةٍ معجزةً ستُروى للأجيال..
ومَعَ طولِ الحَربِ فقدْ نشأَ مُجتمعٌ جِهادي، يُشيدُ بالأبطال المرابطين الذائدين عن الأرضِ والعِرض، ويُفاخِرُ ببطولاتِهم ولا يكُف عن البذلِ والعطاء والدعاء لهم في كل حينٍ وفي كل صلاة..
وكانتْ حنان واحدةٌ من هذا المُجتمعِ المُرابطِ المُترابط، وهي ترى في كلِّ مُرابطٍ أو شهيدٍ أو جريح 

أخًا عزيزًا، وبطلاً فريدًا، ونجمًا لا معًا، وسراجًا مُنيرا، وحاميًا ومدافعا.
حنان غمضان طالبةٌ  مثابرةٌ مثالية، وما إن تمَّ مناداة اسمها لتكريمِها، كمتفوقه حازت على المرتبة الأولى؛ 

وما إن صَعَدت درجات المنصة، وهي بلباسها المُحتشِم الجميل، حتى استَحْضرت في رأسها ذلكَ المُرابط  في نجران وجيزان وعسير، وذلك المِقدامُ في الجوف، وذلك الأسدُ في ميدي، وذلك المُقتحمُ في الساحِلْ وذلك الجبَلُ في نِهم، وذلكَ البأسُ في صرواح، وهي ترى في كل واحدٍ منهم أخًا، وطافَتْ بمُخيِّلتها كل الجبهات بمن فيها من الأوفياء المُخلصين، وتذكَّرَت مقولةَ أحدِ الجنود السعوديين وهو يقول” كلما سمعنا الصرخة نشعُر أن كل الجبال والوديان قد امتلأتْ مُقاتلين، فنهرُبْ” وتذَكَّرتْ مقولة الشهيد المُلصي” الصرخة لا تؤذي إلا من كان اليهودي داخله”، وتذكَّرتِ الكثير الكثير، وأمسكت بقبضتها ورفعتها وقالت بصوتٍ ملائكي “اللهُ أكبر..” فتبعتها القاعةُ الممتلئة بترديدِ الصرخة بأعلى الأصوات، وبأصدقِ العِبارات..
لقَدْ قامت حنان بأصدقِ رسالة، وبأقوى عبارة، ومع أن البعضَ تململَ أو تضايقَ أو تزئبقَ بحججٍ واهية منها أنَّ معاليه في صرحٍ أكاديمي..
وهنا سأتوقَّفْ ولا شك أنكم مثلي متوقفون أمامَ صورٍ ثلاث؛ 

أولا: 

أمامَ هذه الطالبة المِثالية الرائعة والتي أوصَلت بصرختها رسالةً لكل ذي بصرٍ وبصيرة؛ بأننا هنا ندرُس ونتعلم، بفضلكم أيها الصارخون في كل جبهة، أننا هنا نُحقق أعلى المراتب والتفوق بقبضاتكم وصمودكم أيها الصارخون في كل ميدان، أننا هنا منكم وفيكم وعونكم وسندكم ونحنُ أوراقكم وأقلامُكم وكلماتكم، وجميعنا معكم وفي خدمتكم،ولن نرى أنفُسنا أفضلَ منكم بعِلمٍ أو شهادة، لأنه لولاكُم لما تحقَّقَ لنا شيء..
وثانيًا:

أمامَ أولئكَ الذينَ تطأطأت رؤوسهم، وامتقعَتْ ألوانُهُم، واضطربَت كلماتُهم، حينَ رجَّتِ القاعةُ بالصرخة؛ وكأنَّهم ضباطٌ سعوديون. 

ألا تتأثَّرون أنكم تُعلمون وتَتعلمون وهناك من حرم نفسه مواصلة التعليم لتبقوا في كراسيكم آمنين مُطمئنين.

ألا تخجلون أن هُناكَ في الجبهات عشرات الآلاف من الأشبال الأبطالِ ليس فيهم واحدًا  من أبنائكم.

أتضايقتُم من الصرخةِ التي أرعبت العدو ومرتزقته، وهناكَ من يتلقى الرصاص وقصفَ الطائرات بشجاعةٍ وبسالةٍ وسعادة.
وثالثًا:

للمسئولين؛ أليسَ من واجِبكم خلقَ بيئةٍ وطنيةٍ تُدافعُ عن الأرضِ والعرضِ، وأن تكونَ بِذرةُ نشأتها الثقافية والتوعوية من الجامعة، وعلى يدِ الأساتذة والمُدرسين.

ألا نفتحُ أعيُننا لمليء الفراغ منذُ وقتٍ مبكِّر.

ألم تكن الثلاث سنوات الماضية كفيلة بأنْ تُخرِّجَ لنا مآت أو على الأقل عشرات من حاملي شهادة الماجستير والدكتوراه، من الطلاب المؤمنينَ بوطنهم ممن يحملونَ الغيرةَ والحميةَ والوطنية. 

ممن لا يرتجفون حينَ تتردَّد الصرخة على آذانهم المُرهفة.

ومتى يُدرك المسئولون أن أقصَر الطرق لوقفِ العُدوان هو تصحيح (التعليم والتجنيد)!
#مصباح_الهمداني