النباء اليقين

(أنا) ورحلة البحث عن وطن في فنادق الرياض

الشيخ عبد المنان السنبلي

 

في إحدى فنادق الرياض بعد أن وصلت في وقتٍ متأخرٍ إلى هناك، ها أنا الآن أحمل حقيبتي على كتفي وأُقادُ إلى إحدى الغرف التي يُفترض أن تكون مقر إقامتي المؤقتة حتى حين . في الحقيقة لم يكن لي من أمنيةٍ في هذه اللحظة إلا أن تكون غرفتي هذه مطلةً على أحد الشوارع أو الميادين أو حتى فناء الفندق وفعلاً كانت كذلك .
بعد أن أعطاني ذلك السائس بعض التعليمات والإرشادات التي يتعين عليَّ وجوباً التقيّد بها عاد بإتجاه الباب وأغلقه خلفه تاركاً لي على ما يبدو مساحةً من الوقت لأخذ قسطٍ من الراحة من وعثاء السفر !
حاولت فعلاً أن أخلد إلى شئٍ من الراحة هذا المساء فاستلقيت مباشرةً على ذلك السرير الوثير الذي يتوسط الغرفة إلا أن هَمّ الوطن وغرابة المكان لم يسلماني إليها، فنهضت وقررت أن أنزل إلى بهو الفندق لعلي أجد هنالك مِن الذين سبقوني إلى الرياض مَن يبارك لي وصولي هذا ويحدثني عن آخر مستجدات حربنا المقدسة هذه .
هناك في البهو وجدتهم جميعاً؛ وجدت فلان وعلان وزعطان وفلتان وحتى صياد وأم الصبيان، وجدهم وآخرين لم أكن أعرفهم من قبل !
كنت أتوقع بصراحة أن أجد منهم استقبالاً وحفاوةً حتى ولو من باب المجاملة، إلا أن ذلك للاسف لم يحدث، فالجميع كانوا في حالة أشبه بالوجوم والسكون، لكنني ومع ذلك لم أعبأ وبدأت أبحث عن كرسيٍ شاغرٍ أجلس عليه ولحسن حظي وجدته إلى جانب فلان وكنت أعرفه من قبل عندما كان مسئولاً في صنعاء، فأنطلقت بإتجاهه مبتهجاً وبعد ان صافحته وأخذت مكاني بجانبه سالته عن آخر أخبار وانتصارات الحزم .
وبينما كنت منتظراً منه إجابةً، إذا به ينهض فجأةً بدون أن ينبس حتى ببنت شفة وقد بدت عليه علامات الارتباك وهو ينظر إلى جهة رجلٍ أشبه ما يكون بحارس قطيعٍ في حظيرة أغنام يقف عند إحدى مداخل البهو، ثم انصرف .
التمست له العذر وقلت في نفسي لعله ولعله، ثم تحركت أبحث عن شخصٍ آخر من أصحابنا في هذا البهو، وكنت كلما أتجهت إلى أحدهم نهض كسابقيه فجأةً وهو ينظر ناحية ذلك الرجل (حارس القطيع) ثم يمضي بصمت حتى لم يتبقَ في البهو كله تقريباً إلا أنا وذلك الرجل وبعض موظفي الفندق !
جلست مذهولاً ومتسائلاً عن سر ما حدث، وبينما أنا كذلك، إذا بذلك الرجل يتقدم بإتجاهي، فعرفت انه يريدني انا، وقبل أن أبادر بالترحيب به، بادرني بالقول :
من أذن لك أن تثير هذه الجلبة ؟!
وهل أثرت أنا جلبةً أو أحدثت صخباً ؟!
فقال ثانيةً : ومن أذن لك أن تتكلم ؟!
فقلت مستغرباً : وهل أنا بحاجةٍ هنا إلى أخذ الأذن كي أتكلم ؟!
صمت قليلاً ثم قال صارماً وبإسلوبٍ لا يخلو من الفجاجة : تحرك الآن إلى غرفتك وأقرأ التعليمات التي أُعطيت لك جيداً ولا تخرج منها قبل أن يؤذن لك !
أنا بدوري وعملاً بالقاعدة التي تقول (يا غريب كن أديب) اخذت نفسي واتجهت مباشرةً إلى غرفتي حيث بدأت أفكر وأتسائل عن هذا الذي يجري هنا إلا أنني وفي لحظةٍ عدت وقلت : ربما هي لوائح وقوانين هذا الفندق .
على أية حال، غداً ستتضح لي الأمور والصورة أكثر ، هكذا قلت في نفسي .
وبينما أنا كذلك، لم أفق بعد من حالة الذهول هذه، شعرت كما لو أن شيئاً في داخلي يهمس لي قائلاً : ما جاء بك وبأصحابك إلى هؤلاء القوم ؟
فاجيبه في نفسي قائلاً : لكي يحرروا لنا بلدنا .
فيعود قائلاً : وهل سيحرر لك وطنك من يأمرك أن تغلق على نفسك الغرفة ولا تخرج منها إلا بإذنٍ منه ويمنع عنك مستكبراً ومتعالياً حتى الحركة والكلام ؟!
وهنا أردت أن لا أدع لهذه الوسايوس مجالاً لتذهب بي بعيداً على الأقل في هذه اللحظة، ولذلك تعمدت أن أقطع حبالها وأتهرب منها بعيداً، فلجأت إلى الكتابة !
عن أي شئٍ أكتب يا تُرى ؟!
سأكتب عن (العَلَم) اليمني أنه قد عاد يرفرف من جديد في المناطق المحررة !
ولكني أعلم أنه ليس كذلك، فكل الأعلام موجوة هناك إلا هذا العَلَم !
لأكتب إذاً عن (العاصفة) أنها هي الأمل الوحيد الذي تبقى لإنقاذ اليمن من شبح المجوسية والرافضية والعفاشية !
ولكني أعلم في قرارة نفسي علم اليقين أنها ليست كذلك وأنها أسوأ كارثة أصابت اليمن في التاريخ من حيث عدد الضحايا وحجم الدمار ونوعية الإدعاءت والتبريرات المضللة !
وبينما أنا أفكر في موضوعٍ مقبولٍ وواقعيٍ لأكتب فيه، إذا بي أسمع قرع نعالٍ لجمعٍ من الناس في الرواق الطويل المؤدي إلى غرفتي !
من كوَّةٍ في الباب دعاني فضولي أن أنظر خارجاً، فإذا بي أرى لفيفٍ من الجنود يحملون سياطاً وعصيٍ ويتقدمهم ذلك الرجل الذي يشبه حارس القطيع؛ رأيتهم وهم يتجهون صوب غرفتي، ففزعت وبدأت أبحث عن مخبأٍ لي بينما أخذت أصواتهم تتعالى شيئاً فشيئا حتى بدأوا يطرقون باب غرفتي بعنف، ولما وجدوني لم أفتح لهم بداوا يتداعون إلى كسر الباب واقتحام الغرفة متوعديني بالويل والثبور !
كسروا الباب واقتحموا الغرفة ولم أجد أمامي عندها إلا (البلكونة) التي أسرعت إليها وقفزت منها إلى حيث سألقى حتفي !
لقد كانت لسوء حظي في الدور السابع !
وجاءت لحظة ارتطامي بالأرض باللحظة التي أيقضتني من سباتي العميق فزِعاً وخائفاً، لأصحو في هذه الأثناء على وقع إنفجاراتٍ ضخمة وأصوات طائراتٍ تحلق في سماء العاصمة صنعاء،
لقد كان في الحقيقة حلماً مفزعاً وكابوساً مرعباً !
وفي ذات اللحظة أيضاً امتدت يدي تلقائياً إلى كأسٍ من الماء اعتدت أن أضعه في طاولةٍ صغيرةٍ بجانب سريري، شربته بنَفَسٍ واحدٍ كاملاً بعد أن هدّأت من روعي قليلاً أصوات بعض التسابيح التى يملأ صداها العاصمة صنعاء في مثل هذا الوقت من الليل، ثم عدت متأملاً قليلاً وقلت لنفسي متمتماً :
الحمدلله على نعمة الوطن، الحمدلله على نعمة العيش في كنف الوطن !
هنا في هذه الأثناء أسمع صوت إنفجارٍ هائلٍ يهز أرجاء صنعاء !
لقد عاود طيران العدوان اللعين كعادته القصف !