النباء اليقين

من روائع الحضارة اليمنية: قانون يمني قبل الإسلام يمنع (وأد البنات)

الدكتور/حسـن علـي مجلـي أستاذ قانون – جامعة صنعاء

المستشار القانوني والمحامي أمام المحكمة العليا

عضو اتحاد المحامين العرب

من الأمور التي سوف يندهش لها القارئ والقارءة أن المشرع في دول اليمن القديم قد منع، ما بين القرنين الرابع والخامس (400 / 500) قبل الميلاد، أي قبل ألفين وخمسمائة عام، في أحد النصوص النقشية القانونية قتل (وأد) بنات المدينة اليمنية القديمة (مَطْرة) وهي مدينة أثرية لا زالت تحمل نفس الاسم في جهات محافظة (صعدة) اليمانية، الأمر الذي يجعلنا بصدد أقدم منع قانوني لوأد البنات والبنين. ولعل ذلك كان بقصد المحافظة على القوة الاقتصادية للمدينة المتمثلة في كافة عناصرها البشرية القادرة على العمل.

وهذا النقش يعكس الطبيعة المدنية الحضارية للذات اليمنية منذ آلاف السنين.

ويتضح من النقش الخاص بمنع وأد البنات، فإن القرار القانوني المدون فيه يعتبر إلغاءً لطقس وثني مغرق في القدم هو التضحية بالإناث من البشر تقرباً إلى الطبيعة ممثلة في القمر.، وهو الطقس الذي حرمه الإسلام أيضاً بعد أن كان يمارسه الجاهليون في الصحراء العربية.

ويكفي تأكيداً على صحة ما أوردناه وصف (محمد بن حبيب) الجماعات التي كان يطلق عليها اسم (الطلس)، بقوله إنهم: ((بين الحلة والحمس: يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس. وكانوا لا يتعرون حول الكعبة، ولا يستعيرون ثياباً، ويدخلون البيوت من أبوابها، وكانوا لا يئدون بناتهم، وكانوا يقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون. وهم سائر أهل اليمن، وأهل حضرموت، وعك وعجيب)).

وقد كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، يكنّ لليمنيين حباً جارفاً وإعجاباً عميقاً بحضارتهم، وما الحديث الشريف والشهير: (قد أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوباً وألين أفئدة)، إلا دفاعاً عن اليمنيين في مواجهة ما كان يشيعه العلوج الأعراب ضد اليمنيين من أنهم أناس ضعاف وأصحاب مهن لا يرقون إلى مستوى الأخلاق المحاربين من الأعراب … الخ، ومما كان يأخذه أعراب الجزيرة العلوج على اليمنيين أنهم يمنعون (وأد البنات) بل ويعاقبون من يقوم بذلك. فرد عليهم الرسول الكريم بالحديث الشهير.

[ملحوظة: كان الأعراب يئدون البنات في الصحراء، ليس فقط بسبب الخوف من العار أو المجاعة، وإنما يقدمونهن قرابين لبعض الآلهة الوثنية ومنها أنهم أيضاً كانوا يؤلهون الصحراء، ويقدمون قرابين لها، كما كان الفراعنة يقدمون إناثاً قرابين للنيل].

جرائـــم

تنشئة الأبناء خارج مدينة (مَطْرة) وقتل البنات

وزواج الغرباء من بنات المدينة (مطرة)

النقش : Qutrat, (1)

المكان : مطرة

التاريخ : القرن الخامس – الرابع قبل الميلاد

القراءة النصية :

1- وهكذا لا يحق شرعاً إقصاء (تنشئة بعيداً عن) من المدينة (مطرة)

2- كل فطيم بدون أمر وإذن

3- (بني سخيم)، ولا يحق شرعاً الزواج

4- من بنات المدينة (مطرة) في سائر

5- الضواحي والمدن غير المدينة

6- (مطرة)، ولا يحق شرعاً قتل بنته
7- من بين (بنات) الشعب (مطرة)

الشرح والتعليق :

انطوى النقش المذكور على عدة أوامر اجتماعية هي:

الحكم الأول :

منع تنشئة أبناء المدينة (مطرة) خارجها إلا بإذن من أسياد المدينة بنو [سخيم]

الحكم الثاني :

منع زواج فتيات المدينة (مطرة) من رجال غرباء حتى وإن كانوا من المناطق المجاوره.

والواضح من استقراء الأمر محل الدراسة أنه كان يهدف إلى المحافظة على سكان المدينة، وبالتالي صيانة قوتها الاقتصادية من الضياع. وتتضح أهمية هذه المسألة إذا ما علمنا بأن المرأة كانت تشارك، في دول مدن اليمن القديم، الرجل في كثير من الأعمال ولا سيما الزراعة.

الحكم الثالث : منع قتل (وأد) بنات المدينة، مما يعتبر أقدم منع قانوني لوأد البنات. ولعل من أسباب ذلك أيضاً المحافظة على القوة الاقتصادية للمدينة المتمثلة في كافة عناصرها البشريه القادرة على العمل أو المرشحة لتصير كذلك. ويشمل ذلك الإناث بطبيعة الحال.

وبذلك يكون الإنسان في اليمن القديم قد بلغ مرحله متطورة في وعيه بأن أصدر قانوناً يتضمن منع التودد إلى الطبيعة بأضحية بشرية، ومن هنا نجد الدلالة العميقة الحديث النبوي الشريف العميق: (قد أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوباً وألين أفئدة).
ولقد سبق أن أوضحنا أن وأد البنات كان من العادات الوثنية في الجاهلية أن هذه العادة قد استأثرت باهتمام كبير في أخبار العرب، وكانت تعني، غالباً، قتل الطفلة الأنثى بدفنها حية. وقد أشار القرآن الكريم في ثلاثة مواضع إلى قتل الأولاد ودفن البنات: ((قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم))، ((ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم))، ((ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم). وآية أخرى تؤنب العربي بشدة لموقفه العدائي لولادة الأنثى ((وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون.