النباء اليقين

وسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ

دروس من هدي القرآن الكريم

ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي

اليمن – صعدة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}(آل عمران134-133) المسارعة معناها: المسابقة، عندما يقول: {سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} ليست المسارعة معناها نسابق، نسابق سبَق؛ أن المغفرة موجودة هناك، والجنة هناك مطروحة نسابق إليها!.
نسارع: أي: نبادر إلى الأعمال التي بها نستحق المغفرة، و بها نستحق الجنة. المبادرة إلى الأعمال الصالحة، يكون الإنسان سبَّاق، مبادر، ما يكون فيه تثاقل، وكل ما ذكر من صفات المتقين يوحي بأن هذه هي من صفات المتقين: المبادرة، المسارعة إلى الخيرات.
قضية المبادرة، قضية المسارعة هي شيء مهم في الإسلام، شيء مهم، وفي ميادين العمل للإسلام، والصراع في مواجهة أعداء الله، تجد المبادرة لها أهمية كبرى جداً؛ ولهذا جاء القرآن بعتاب شديد، وسخرية ممن يتثاقلون: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}(التوبة38) تباطؤ، زحزحة، وممكن يحصل التثاقل عند الناس في الأعمال الصالحة ولو عند واحد انه مستعد، سيقوم، سيعطي من ماله، سيسرح يجاهد، سيقوم بالعمل الفلاني، لكن ببطء، وتثاقل.
عندما يدعوهم إلى الجهاد، وكان العادة أن يعسكروا، أو يحدد مكاناً معيناً يجتمع الناس فيه لينطلقوا بعدما يجتمعوا، وقد يكون كثير من الناس عنده استعداد أنه يخرج [لكن بقي معي باقي عمل، عاد معي حاجة من عند فلان باحتاج اسرح لها، ومتى ما غد إنشاء الله با نرجع نجاهد] بطء، تثاقل، [وعاد معي باقي شغل في حديقة نخل، أو في مزرعة، أو عاد معه مسقاة يريد يكملها]!.
مع أنه قد حصل استنفار، والإستنفار معناه: الدعوة إلى الخروج بسرعة، مبادرة، {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} والقائل من هو؟ محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) رسول الله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}(التوبة 38) {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً}(التوبة41).
أليس هذا أمر بالمبادرة، والمسارعة، هكذا؛ لأنه هذه الصفة مهمة جداً بالنسبة للمسلمين، هي الصفة التي تجعلهم هم السباقين، وهم سادة الأمم، تجعلهم هم أصحاب السبق في كل ميادين العلم، والمعرفة، في كل مجال من مجالات الصناعة، من مجالات الزراعة، وكل المجالات مثل: الطب، والهندسة، وغيرها، لكن مسألة التثاقل، التباطؤ، هي التي تؤخر الأمم، وتؤخر الناس ما يعرفوا أشياء كثيرة، فيسبقهم الآخرون.
فكان رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، كانت صفة المبادرة، المسارعة، من أبرز الصفات لديه، لا يوجد عنده تثاقل، ولا تردد، ولا ترجيحات، ولا [عسى ما بو خلة، عسى] كان لديه طبيعة المبادرة.
في غزوة [تبوك] استخدم هذا الجانب، جانب المبادرة، وكان جانب المبادرة هذا هو الذي جعل الرومان – وهم أكثر قوة، وأكثر عدداً – يتراجعون، ويقررون عدم المواجهة مع رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)؛ لأنه حرك الناس.
عندما بلغه بأنهم قد تجمعوا في الشام، يريدون أن يهجموا على بلاد الإسلام حرك الأمة، والقرآن حركهم أيضاً بآيات ساخنة، يخرجون حتى وإن كانوا[في وقت شدة]، حتى عندما صادف وقت شدة، وقت قلة ثمر، أو الثمر ما قد حصل. ما قال ننتظر حتى ينضج التمر، والثمار تحصل حتى يكون لدينا قدرة أننا نمول نفوسنا، ونخرج.
لا بد أن يخرجوا، وبادر هو بالزحف، وانطلق إلى تبوك، وبين تبوك وبين المدينة حوالي [750 كيلوا]! يعني: دخل هو إلى أقرب منطقة من المناطق في بلاد الشام، رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) ومعه ثلاثين ألف، قد حشدهم من الناس جيد وفسل، هيا يخرجون.
هكذا كانت سيرة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله)؛ لأن رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) كان رجلاً قرآنياً، رجل يتحرك بحركة القرآن، يجسد القرآن، يفهم معاني القرآن، وغايات القرآن، ومقاصده، وأساليبه، ومنهجه.
في قضية المال جربنا هذه، جربنا هذه مع المشاريع، والمساهمات، يكون كثير من الناس مستعد أن يدفع، لكن عنده سيدفع [بعد غد، أو إنشاء الله يوم الخميس سألقِّيه أو…] مجرَب، كان يضيع علينا أحيانا شهر كامل وواحد منتظر، أو شهرين حتى يتجمع المبلغ، وهم مستعدين، لكن التثاقل، التثاقل يضيِّع عليك وقت كثير، ويضيع فرص كثيرة أخرى [عسى برجع ألقاه يوم الخميس، أو برجع إنشاء الله أعطي فلان أو بقي معي أو…].
صفة المبادرة في كل شيء مهمة جداً، المبادرة إلى الأعمال الصالحة، حيث جعلها من صفات المتقين، ومن أهم ما أثنى بها على أوليائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (الأنبياء90) كانوا يسارعون في الخيرات، وفي آية أخرى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}(البقرة148).
بعد ما يقول في صفات المتقين، أول صفة مهمة، وصفة أيضاً ما لم تكن مطبوعة بطابع المسارعة أيضاً تفقد كثيراً من إيجابياتها، وثمارها، عندما قال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء} هي أيضاً توحي بأنهم ينطلقون في مجالات الإنفاق بمبادرة، بسرعة، لا يوجد فيهم تثاقل، [وساعة العون]؛لأن هذه القضية تفقد الأمة أشياء كثيرة.
مثلاً تأتي كما كان يحصل في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) حركة جهاد، فيدعو إلى الإنفاق، وكل واحد جاء بقليل اليوم، والثاني جاء، وبدا مجموعة وجايوا بقليل، ومجموعة ثاني يوم، ومجموعة ثالث يوم، ما هم سيضيعون وقتاً كثيراً؟ ما دام أنت ستعطي على أساس بعد غد، أو يوم الأربعاء، أو يوم كذا، فبسرعة؛ حتى تتحرك المسألة.
كم سيأخذون من وقت! حتى يتوافد أهل المدينة، ويكمِّلوا، ويتجمع منهم، وكل يوم ما بيبدي إلا مجموعة من الأشخاص، يتجمع قليل تمر، أو قليل حب، ما هم سيتأخرون على أقل تقدير أسبوع؟ والصراع يستدعي المبادرة.
لا يحسم الموضوع في الحروب، في المواجهة إلا المبادرة، عنصر المبادرة أهم عنصر، المسارعة، تكون أنت صاحب السبق، تكون أنت سيد الموقف، لكن متى يمكن أن تكون سيد الموقف؟ إذا كان من حولك كلهم مبادرين، عندهم حركة المبادرة، المسارعة.
فالآيات هذه كلها توحي بأن المؤمنين، المتقين، وهم من وصفوا بأنهم ينفقون في السراء والضراء، أنهم ينفقون بمبادرة، ومسارعة.
فالآية هذه من قوله: {سَارِعُوا} طبعت صفات المتقين إلى أنهم فعلاً يبادرون، ويسارعون إلى ما وصفوا به، ولهذا عندما قال بعد: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ}(آل عمران135) أليست هذه مبادرة؟ {ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا}، ترتيب الغاية في {ذَكَرُواْ اللّهَ} بعد الشرط، أيضاً الإتيان بالفاء {فَاسْتَغْفَرُوا} تدل على أن عندهم روح المبادرة، المسارعة.
ولهذا كانت المسارعة في الواقع تبدو أنها مطلوبة في معظم الأعمال، عندما قال: {سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} ألم يطبع المسارعة في كل ما تحصل به على المغفرة، في كل ما تستوجب به المغفرة من الأعمال الصالحة أن تكون مسارعاً إلى ما تستوجب به المغفرة من الأعمال الصالحة، ومسارع إلى ما تستوجب به المغفرة من التوبة، إذا حصل منك أي خطيئة، ثم تكون مسارعاً إلى ما تستوجب به الجنة من الأعمال.
فتجد أن الشيء المطلوب في الغالب بالنسبة إلى الأعمال الصالحة هو المسارعة، هو المبادرة.
وأبرز صفات المتقين التي نريد اليوم أن نتحدث عنها أيضاً: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} هم ثلاث صفات مهمة جداً، لا تتوفر إلا فيمن تذوب شخصيته في الإسلام، تذوب نفسيته في العمل لله، بحيث نفسه هو ما يعطيها أهمية فوق كل شيء.
فمن أساء إليَّ بِزَلة تحصل منه من الإخوة المؤمنين كأنه اعتدى على جبار السموات والأرض، لم يعد يمكن يتسامح، ولم يعد يمكن انه يتقارب، ولم يعد يمكن أنه ولو يتقارب للعدل، يعتبرها وحده كبيرة، اعتداء على الإسلام، أو اعتداء على القرآن.
الشخص الذي يكون مهتم بنفسيته هو، تكون نفسه عنده هي كل شيء، أن يعتدى على الإسلام ما يحرك شعره فيه، أن تظلم الأمة كلها ما تهتز فيه شعره، أن يحصل عليه شيء ولو كلمة، تقوم الدنيا، ولا تقعد! ولا يكظم غيظاً، ولا يعفو، وبعضهم ما عاد يتقيد بالحق، على أقل تقدير أنه يريد الإنصاف، وكل مشاعره منشغلة بهذا الموضوع، وكل كلامه، وكل أعماله، وكل تفكيره يصبح منشغلاً في هذا الموضوع الذي ووجه به من قبل أخ مؤمن حصل منه زلة.
هو من رسالته أن يذوب في العمل لله، في الإسلام، عنده هذه الروحية: روحية المسارعة إلى ما يستوجب به المغفرة، وإلى ما يستوجب به الجنة التي عرضها السموات والأرض، يهتم جداً بالقضية الكبرى، أنها هي قضية يجب أن ينظر إلى نفسه، وماله وكل ما حوله أنه هين أن يضحي به من أجلها، وهو الإسلام، العمل في سبيله، العمل لإعلاء كلمته، الدفاع عنه، الدفاع عن أمته.
من كان على هذا النحو فستكون شخصيته، وماله، ليست ذات أهمية لديه، حتى إذا ما انطلق إلى العمل في سبيل الله فووجه بدعاية من هنا، أو من هنا، ما يتأثر، ليس ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}(العنكبوت10) لا بأس سيعمل للإسلام، سيتحرك في الأعمال الصالحة، في مواقف جيدة، لكن إذا سمع دعاية ضده قال: [ها ما عاد لي حاجة] ويفلت كل شيء، وكأنها تعتبر عنده كما قال الله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} يعني ما يلحقه من الناس كما لو عذب، {كَعَذَابِ اللَّهِ}.
يذوب في هذه المسألة بحيث أنه ينسى أنه يعطي لشخصيته أهمية كبرى، بحيث إذا ما لحقه شيء ليس مستعداً أن يكظم الغيظ، ولا أن يعفو. نحن قلنا: قضية كظم الغيظ، والعفو، هي مسألة زايد على العدل، أي الشيء الطبيعي، والذي هو نازل في الساحة للناس جميعاً أن يحصل من جانبك شيء علي، كلام جارح، أو شيء يتعلق بمالي، أو بعرضي، فهناك العدل، ألتزم العدل أنا، لا تكن ردة الفعل من جانبي قاسية أكثر مما حصل منك، ثم نكون جميعاً مستعدين أن نتناصف فيما بيننا، أو أن نحكِّم من يحكم بيننا بالعدل، فما قضى به فهو الذي يجب أن نعمل به جميعاً. فما أنا بحاجة أن أكظم غيظ، أو أعفو.
لكن المؤمن المتقي حقيقة، من تهمه قضية وحدة الناس، من يهمه قضية إعلاء كلمة الله، الجهاد في سبيل الله، لا بد أن تكون هذه من الصفات البارزة فيه، ولأنها صفة بارزة فيه؛ لأنه لم يعد يعطي لشخصيته قيمة كبيرة بحيث يجعلها مقياساً، يجعلها كل شيء أمامه في الحياة، فهي أهم من الدين، أهم من الأمة، أهم حتى من الله عنده.
ألسنا كثيراً لا نغضب لله، لا يحصل فينا غضب لله عند الناس! أليس هذا واضح؟ لكن يحصل على واحد منا شيء يتعلق بنفسه، أو بماله، ما هو يغضب؟ لأنه قد أصبح الشيء الذي كان يجب أن يكون محط اهتمامنا، فله نغضب، وفيه نذوب، بحيث كل شيء دونه سهل، الذي هو الله سبحانه وتعالى، ودينه، ورسوله، وعباده.
أصبحت أشياء ما يثير أي شيء يعتبر اعتداء عليها، أو إساءة، أو مخالفة، فيما يتعلق بهذا الشيء العظيم، لا يثيرنا! لماذا؟ لأننا مشغولين بأنفسنا، أنفسنا أصبحت لدينا هي أهم من كل هذه الأشياء، أهم من الله، ورسوله، وجهاد في سبيله.
فهذه الصفة نفسها، التي هي في الواقع ممكن أن يكون العدل هو يحل محلها، أليست تبدو وكأنها اختيارية: كظم الغيظ، والعفو؟ لكن بالنسبة للمتقين، والمتقين واعين، المتقين متكاملين في فهمهم، تصبح صفة لازمة من صفاتهم. ما الذي جعلها صفة لازمة من صفاتهم؟ هو أنه يكون سريعاً إلى أنه أي شيء يبدر من جانب الآخرين ضده ممكن أن يكظم غيظه، ويقفي وكأنه ما حصل شيء حفاظاً على وحدة الناس، حفاظاً على أن لا تثار مشكلة فيبقى هو منشغلاً بهذه القضية، وهو ذهنه منشغل بالقضية الكبرى، فلا يتحول إلى أن ينشغل بالقضية هذه، مرة حصلت من هذا، ومرة حصلت من هذا، ومرة من هذا، ويكون هو مشغول بكل قضية تحصل عليه، فبقي مصارعاً من أجل ذاته، في قضية عادية، بسيطة، لا تقدم، ولا تؤخر.
يكظم الغيظ، يعفو عن الناس؛ لأنه ماذا؟ مشغول، مشغول بالقضية الكبرى، التي يجب أن تكون هي محط اهتمام المتقين: العمل في سبيل الله، العمل على إعلاء كلمة الله، العمل على إنقاذ عباد الله، فيرى مهمة كبرى أن يفرغ ذهنه، وصراعه لهذا الجانب، أن يفرغ قدراته في هذا الجانب، أن يحاول أن تكون وحدة المسلمين قائمة فيما بينهم، فلا يختلف مع أحد، ولا يدخل في شقاق مع أحد مهما أمكن، فسيعفو، وسيصفح، وسيكظم الغيظ.
هذا بالنسبة للمجتمع الذي هو مجتمع صالح يعتبر توحد أفراده ذو إيجابية بالنسبة للإسلام، وبالنسبة للمسلمين، أما إنسان فاسد هو عدو، هو مباين، لست بحاجة إلى أن تكظم غيظك معه، ولا أن تعفو عنه، لكن عليك أن تلتزم جانب العدل معه أيضاً.
هذه أشياء كلها تلفت النظر حقيقة، قضية أن يصف الله عباده المتقين بهذه الصفات المهمة، تلفت النظر إلى أنه يجب أن نتأدب بأدب القرآن إذا كنا مؤمنين، مسلمين، وأنها صفات تعطي أثرها المهم، وتترك إيجابية كبيرة جداً فما يتعلق بتهيئة الناس أن يكونوا متآلفين فيما بينهم، وأن لا يغرق المجتمع بالانشغال بالقضايا الصغيرة.
إذا معنا شخص مثلاً مهم، أو معنا شيخ مهم، أو معنا كبير نلتف حوله، فنكون مغرقين بيته بنادق، رباخات، رباخات على مشاكل، هذا على صخره، وهذا على مشرب، وهذا على [زربه] وهذا على [قليل عَلَف] على حاجات بسيطة من هذه. أي: هذا مجتمع فارغ، مجتمع يعيش حالة فراغ عن الاهتمام بالقضايا الكبيرة، قد فرحنا، معنا شيخ باهر، ومن أولياء الله، وشيخ جيد، تدخل مجلسه وهو ملان، غرفته ملان بنادق رباخات.
هل تجد أي قضية إسلامية داخل هذه الرباخات؟ داخلها، هل هناك شيء؟ لا، كلها قضايا هامشية، كلها كثير منها قريب، كلها مما يمكن أن تفصل في لحظة.
لكن إذا كانوا أطرافاً، كلهم يهتمون بقضية كبرى، هي التي وجه الله عباده إلى الإهتمام بها، إهتمام بأمر الدين، لكن حاول أن تطرح قضية إسلامية تقول للناس أن يتحركوا فيها، هل سيبدو لديهم الحماس الذي يبدو أمام بعضهم بعض، وهم يسيِّرون الرباخات إلى عند الشيخ؟ لا، تراهم أمام هذه القضية يبدون متبهطلين، وتثاقل!.
فأن تكون هذه الصفة يعمل المسلمون على التحلي بها، وبالشكل الواعي، أنه من أجل ماذا ننطلق لكظم الغيظ، والعفو فيما بيننا؟ ستبدو قيمتها إذا كان لدينا اهتمام كبير، نحمل مسؤولية أمام دين الله، أمام دين الله، حتى فيما يتعلق بالخصومة، أفكر بأن المبلغ الذي يمكن أن أخسره أنا وأنت في شريعة على صخرة، على مشرب صغير، قد لا ينزل منه برميل ماء، عندما يكون المطر قوياً، والتي سنخسرها حوالي ثلاثين ألف، عشرين ألف، أربعين ألف.
إذا ما عندي فكرة بأن المفروض أن هذا المبلغ الذي أقوم أحاول أن أوفره، وأخرجه من داخل شمطتي، أو اقترضه، أليس العمل للإسلام أولى به؟ إذا كنا من يفكر هذا التفكير فسأتصالح معك بسرعة، سنتصالح فيما بيننا بسرعة، وسيكظم بعضنا غيظه على الآخر، بل سيتحاشى كل واحد منا أن يصدر منه ما يجرح مشاعر الآخر، وعادة ما يجرح مشاعر الناس هو أكثر مما هم مختلفين عليه، هذا هو العادة.
المشرب، أو قطعة الأرض، أو الصخرة، أو قطعة المحجر، ما هي تكون هناك محلها؟ هي ليست بالشكل الذي يثير، نحن مختلفين، تقول هي لك، وأنا أقول هي لي، خلاص إلى هنا تقف المسألة، نوقف عند فلان، وأنت تحضّر ما معك، وأنا أحضّر ما معي، وبسرعة.
لكن لا؛ لأننا نعيش حالة فراغ عن الاهتمام بالإسلام، كل واحد يقوم يشكي، وكل واحد يتهم الآخر بأنه عدو الله، وأنه ظالم، وأنه من يأكل لو هو من كفن الجنازة، وأن، وأن.. وما دريت وإذا بتلك القضية حاجة بسيطة، تصبح لم تعد هي التي تثير الموضوع تقريباً، قد هي حالة توتر تأتي من الكلام السيئ، الجارح، المتبادل فيما بينهم، والاتهامات، فيرسخ حالة من الشعور بالعداء، ومن حالة التوتر، لدرجة أنه يكون مستعد أنه [لو با ندي جنابينا، أو ننقل الحاكم ونهب له من مائة ألف، أو، أو،] فيقع الناس في مثل هذه المظاهر السيئة.
وتلاحظ لو تأتي إلى أشخاص يكونون مستعدين أن يعطوا للحاكم، أو لمدير، أو لشخص من أربعين ألف مخابرة على قضية قد لا تكون قيمتها عشرين ألف، لو تقول لهم: هاتوا أعطونا من خمسه ألف في سبيل الله، ألا تكون ثقيلة عليهم؟ ما هم سيتثاقلون، يتباطأون؟ هو سيرجع في الأخير يرد الفلوس في جيبه، ويعطفها بين أربع باغات ويربطها ويدخلها هناك.
لكن فيما يتعلق بإرضاء مشاعر نفسه أصبح لديه غضب، أصبح لديه حالة توتر ضد الآخر! ما هو هنا أصبحت نفسه، وأصبحت الصخرة هذه، أو المشرب، أو قطعة المحجر، هي أهم من الله، ورسوله، وجهاد في سبيله، {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} ألم تصبح هكذا؟ فهذا مما يستوجب به الناس الغضب من الله {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ}(التوبة24) تهديد هذا، تحت قوله: {فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا محلكم، ما عليكم، سيأتيكم ما تستحقون به ما أنتم عليه من هذه الظاهرة السيئة.
الظاهرة السيئة أن تكون الأشياء هذه أحب إلينا من الله ورسوله، وجهاد في سبيله: أموالنا، وأبناؤنا، وتجارتنا، ومساكننا. أليس الشيء الملموس عند الناس بأنها أحب إليهم من الله، ورسوله، وجهاد في سبيله؟ شيء ملموس، بدليل أننا نهتم بها أكثر مما نهتم بأمر الدين، لا نعطي الدين، ولا واحد من ألف من الاهتمام بأمره بمثل ما نهتم بأموالنا، وأبنائنا، ومساكننا، وتجارتنا.
فالتربص معناه: انتظروا، ما عليكم، سيأتيكم ما يؤلمكم، سيأتيكم الضرب، ويأتيكم الإهانة، تجيكم الذلة؛ لأنها عبارة غضب من الله سبحانه وتعالى، {فَتَرَبَّصُواْ} ليس معناها قد سبرتم، مكانكم، وليس لنا دخل منكم، لا.
إذاً فلا بد أن تكون هذه الصفة من الصفات التي ينطلق الناس في التحلي بها فيما بينهم، كظم الغيظ، والعفو.
عندما يأتي الشخص أخطأ عليك بزلة حصلت منه، ثم يأتي يعتذر، إقبل عذره، ويجب عليك أن تقبل عذره. عندما يحصل منك زلة أنت على شخص آخر، ولو عندك أنه ليس بالشكل الذي يمكن أن تخاف منه، بعض الناس قد يحصل منه زلة على شخص آخر هو مسكين، ولأنه لا يخاف منه، لا يبادر إلى أن يعتذر إليه، ما هو خائف أنه ستأتي ردة فعل شديدة عليه، لا يهتم أنه يعتذر إليه.
يجب أن تعتذر إذا حصل منك زلة على شخص كبير، أو صغير، قوي، أو ضعيف، سواء كان شخصاً ممكن أن يؤثر عليك فيما بعد، أو شخص لا يستطيع أن يعمل بك شيئاً، لا بد أن تعتذر، ومتى ما اعتذرت عليه أن يقبل عذرك.
وهذا الشيء أيضاً عندما يكون الناس لا يعتذرون إلا من الأقوياء منهم، لا يعتذر إلا عندما يأتي واحد يقول له: لاحظ هذا الإنسان سيكلف عليك عملك هذا منه، وموقفك هذا منه، ستثير عداوته ضدك.
لا،.. يجب أن تعتذر ولو عندك أنه ليس بالشكل الذي يمكن أن تخاف منه.
[وجه الله سبحـانه وتعالى عباده المتقين إلى صفة] عالية أيضـاً: أن أكظم غيظي، ثـم أرد السيئة بالحسنة {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فصلت34- 35) أليست هذه صفة أخرى لا تقم إلا على قاعدة المبادرة إلى كظم الغيظ؟ فأن تكظم غيظك صفة إيجابية مهمة، لكن أيضاً مطلوب منك كمتقي أن تنطلق الانطلاقة الأخرى، وهي: أن تدفع السيئة بالحسنة، أواجه ما يصدر منك من شيء يسيء إلي بالإحسان من جانبي بالكلمة الحسنة، بالموقف الحسن، بالعمل الحسن؛ لأن كلمة حسنة، وسيئة، تشتمل سواء كلمة، أو موقف، أو عمل، مهما كان شكله أرد عليه بكلام إحسان، بكلام لين.
وهذا الأسلوب هو مما لا يؤتاه إلا من كان ذو نصيب عظيم عند الله سبحانه وتعالى، ممن له حظ عظيم، في كمال نفسه، وزكاء روحه؛ ولهذا قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} ممن هو صابر، يستطيع أن يمسك أعصابه؛ لأن هذه الحالة هي نفسها تترك أثراً في الطرف الآخر….
تكف يديك أنت، يكف الناس أيديهم عما يؤدي إلى ظهور الفساد، وسيسبر الزمن! الفساد أحياناً لا يكون بالمعنى الذي نفهمه، بمعنى انتشار العادات السيئة، أو انتشار أشياء سيئة في المجتمع، ثم نرى أنفسنا بأننا ملتزمين، ما بين ننطلق فيها، ولا يوجد في مجتمعنا ظواهر سيئة منها.
لكن هناك أشياء كثيرة نحن نغفل عنها، يأتي الفساد بسبب غفلتنا عنها، وفي الأخير يتساءل الناس: [مدري مهلنا قد هذا زمان فسل، والناس قد تمحقوا، وكل شيء ما عاد فيه بركة، ولا عاد سبر حتى إذا مع واحد موقف حق ما عاد بيرضى يمشي، أو إنسان مطلبه حق ما عاد بيرضى يمشي له، والقلب بيمشي، يمشي الباطل يمشي القلب] والناس يتساءلون، أليس الناس يقولون؟ خاصة الكبار الشيبات الذين كان الزمن أفضل في زمنهم، أو عايشوا زمان أفضل من زماننا، يرون أنه قد تغيرت الأشياء. يقولون: [لا عاد هناك وفاء لا عاد هناك أمانة، ولا عاد هناك صدق بين الناس، والناس قد قلوبهم ملي حقد، وحسد، وقد تفرقت كلمتنا، والحق قد ضاع].
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}(طه124) والمعيشة الضنكا هي هذه: ترى كل شيء يتدهور، الزمان ينتشر الفساد فيه، ينتشر الضلال، والباطل له كلمته، والمظلوم يضيع، والظالم مستجاب، تجيبه دولة، يجيبه ناس، ومن موقفه حق ما بيرضى حتى بعضهم وقد بيدي رشوة، أحياناً ما بيرضى يمشي الحق. بعضهم يكونوا متشاجرين، وذاك يعطي رشوة، وذاك يعطي مثله، وما يرضى يمشي الحق، وقد هو بيدِّي مثل ذاك! أيضا ترى أنه ما بيمشي مثلما يمشي الباطل.
وسبب الأشياء هذه كلها الإعراض، في واقعنا نحن معرضين عن الإلتزام بهدي الله، الإلتزام بالقرآن الكريم، ولا بين نفهم الأمور على ما وجهنا الله سبحانه وتعالى إلى فهمها، منها هذه الغلطة، وهي غلطة كبيرة عند الناس، أنهم ما ينظرون لأنفسهم أن الخطأ من جانبنا نحن.
وقد يكون الخطأ أحياناً هو خطأ قلة وعي، قلة وعي بالأمور التي ليست زعم أنها أعمال سيئة بين نعملها، عدم وعي لدينا بالأمور، كيف يمكن أن تكون صحيحة، وكيف يمكن أن تكون سيئة، وكيف يمكن أن تكون عواقب الأشياء، سواء عواقب حسنة، أو عواقب سيئة.
منها هذه: أن يكون الناس منتظرين أن تسبر الأشياء تلقائياً، هذه هي غلطة عدم الوعي، أليست هذه تعود إلى وعينا؟ ولو ما هي زعم شيء نعمله، لكن الإنتظار للشيء أن يصلح من الجهة التي لا يمكن أن يصلح منها تلقائياً.. هذا بيؤدي بالناس إلى أنه ما يرجعوا يحاسبوا أنفسهم هل هناك خلل من جانبنا نحن، فإذا فهم الناس أنها سنة إلهية {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد11) أن التغيير يأتي من عندنا نحن، متى ما أصلحنا أنفسنا، متى ما فهمنا، متى ما وعينا، متى ما عرفنا الأمور كيف يمكن أن تكون صالحة، أو فاسدة، أو تؤدي إلى صلاح، أو تؤدي إلى فساد، كيف يمكن أن تكون عواقبها؟ متى أصبحنا على هذا النحو، لدينا وعي، فانطلقنا نغير من واقعنا، نغير من واقع أنفسنا، فسيستطيع الناس أن يغيروا هم.
ثم عندما ينطلقوا هم ليغيروا الله سبحانه وتعالى سيؤيدهم ولذلك قال: {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فيحصل التغيير مشترك، من جانب الناس، بعدما يصلوا بأنفسهم إلى الدرجة التي تكون قابلة أن يغيروا نحو الأفضل، فالله سبحانه وتعالى حينئذ يتدخل في المسألة، ويغير معهم إلى الأفضل.
فهنا جاء بعبارة قاطعة، عبارة قاطعة تحكي سنة من سننه الإلهية: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
إذاً فالناس بدل ما ينظروا إلى فوق لتأتي الأشياء تلقائياً، منتظرين للمجهول، أن يصلح الزمان من نفسه، ويسبر المسؤولين من أنفسهم، وتسبر الدنيا، وتعود بركاتها التي ضاعت، تسبر من نفسها. معنى هذا أنهم سيظلون جيلاً بعد جيل تائهين.
فمتى ما فهمنا – أن المسألة من جانبنا نحن – أن نعي، أن نفهم وسنعرف كيف تتغير الأشياء من الأسوأ إلى الأفضل، وإلا سيكونون قد ساروا على وفق السنة الإلهية؛ لأنه جاء بعبارة قاطعة: {لاَ يُغَيِّرُ} أليست هكذا عبارة قاطعة، ويأتينا بعبارة تُفهم بأنها سنة إلهية في كل الأمم، في كل المجتمعات {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} قلوا أم كثروا {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
أكثر ما يؤمن الناس خاصة من لديهم اهتمام نوعاً ما في نفوسهم، يعني: يتضايقوا من الباطل أن يروه، ويتضايقوا من ضياع الحق، يتضايقوا من الفساد أن ينتشر، يتضايقوا من أن يروا أخلاقيات المجتمع تذوب، وتتلاشى، تتفكك النفوس، وتضيع الوحدة فيما بين الناس، ويضيع الصدق، والأمانة، والوفاء، ويصبح الشاطر الذي يرى نفسه ذكياً أن يحارش بين الناس، أو يغش الناس، أو يخدع، يعتبر نفسه هو الذكي، والشاطر في المجتمع.
عندما يكون هناك من تؤلمه هذه الأشياء، من يتألم لمثل هذه الأشياء، هو يلمس أن الزمان يهبط، وأن كل سنة تأتي أسوأ من السنة التي قبلها، هذا شيء يلمسه كثير من الناس ممن يراقبون الأحداث، خاصة كبار السن، الذين عايشوا أزمنة أفضل من زماننا، يلمسون حتى أنها تتفكك القبائل فيما بينهم، وحتى القرية الواحدة، وحتى الأسرة الواحدة لم يعد فيما بينهم أخوة، ولا عاد هناك صدق، ولا وفاء، ولا التزام، ولا أمانة ولا نجدة فيما بين الناس في أي موقف من المواقف، وعلى ما قال الإمام علي (صلوات الله عليه): ((إذا فسد السلطان فسد الزمان)).
إذا جاء سلطان لا يهتم بالأمة؛ لأنه أحياناً قد يأتي السلطان فيكون همه هو أن يستقر حكمه، وهناك وسائل قريبة لاستقرار الحكم لكنها ليست لصالح الأمة هي: أن يرضي كبار الناس، زعماء القبائل، يرضي زعماء القبائل الكبار، ويتركهم يتدخلون في السلطة، ويتدخلون في القضايا، يتدخلون في شؤون المحاكم، يتدخلون في الشؤون الإدارية، فيكون هذا الشيخ من هنا، وهذا من هنا، وكل واحد يقطع من عنده، وحوالات يعطيهم، هذا مليون، وهذا أربع مائة ألف، وهذا خمس مائة ألف، وهذا مائة ألف، حوالات بشكل مستمر.
هنا تستقر وضعيته، لكن الأمة تتحطم، الأمة تدهور، وهذا ملموس في زماننا هذا، ملموس هذا في زماننا، مثلما كانوا في سياسة علي محمد الصليحي في أيامه، كان محمد الصليحي في أيامه هكذا، علي عبد الله عمل بسياسته ذلك اليوم، الكبار يتركهم يِدَّيْوَلُوا، وفلوس، ويتدخلوا في كل القضايا، كان بعض المشايخ يدخل إلى داخل المحكمة يضغط على الحاكم يحكم على طريقة معينة، أو يوقف حكم حق، قد با يمشي، يقول: ما شي، والا بايقرح راسه، يفجر بيته، والا سيارته، وهم ساكتين.
في الحالة هذه المجتمع يتضرر جداً، وفي الحالة هذه تغيب أشياء مهمة كان على الدولة أن تعملها، اهتمام بالناس أنفسهم، بالمجتمع نفسه، أن يربى تربية إسلامية، أن يربى تربية صالحة، أن تسود فيه القيم الصالحة، أن ينصف فيه للمظلوم من الظالم.
إذا كان الزمان على هذا النحو يصلح، وتصلح النفوس فعلاً، لكن إذا لم يكن على هذا النحو فتعتبر وضعية سيئة، في حالة الوضعية السيئة لا يمكن أن يغير الناس إلا من جانب أنفسهم هم، من جانب أنفسهم هم، أن يغيروا ما بأنفسهم، على أقل تقدير أن لا يتقبلوا، يقفلوا ءاذانهم أمام وسائل الإعلام التي تحاول أن تمسخ نفوس الناس، أن تمسخهم أخلاقياً، ودينياً، وتغير معتقداتهم، وتخلق لديهم ولاءات غير مشروعة، وعداوات، تصبح موالاة لأعداء الله، وعداوة لأولياء الله.
فإذا تأمل الإنسان فعلاً أكثر ما يعاني الناس من الأشياء، سواء كان سببها من عندهم تلقائياً، أو هم مشاركين في السبب، وأن وسائل أن يخرجوا من هذه الوضعية هي بأيديهم، وسائل بأيدي الناس، ويتهيأ في كل زمان أشياء عجيبة، يستطيع الناس أن يستغلوها بشكل كبير.
لاحظ إذا واحد نظر، إذا نظرنا لأنفسنا فيما بيننا أشياء كثيرة هي في متناولنا، نستطيع أن يكون تعاملنا مع بعضنا تعامل حسن. أليس هذا ممكن؟ خاصة إذا رجع الناس إلى القرآن، لو رجعوا إلى القرآن، وآمنوا بالقرآن، وخافوا من الله، من عذاب الله، من جهنم، وعملوا على أن يلتزموا بتوجيهات القرآن، وإرشاداته، فبالإمكان أن يتعاملوا فيما بينهم تعامل حسن، ما أحد سيقول لك: لماذا؟.
عندما يعفو بعضنا عن بعض، عندما نكظم غيظنا مع بعضنا بعض، عندما نلتزم بالصدق فيما بيننا، عندما نلتزم بالعدل فيما بيننا، إذا حصل من شخص خلاف مع شخص؛… يكون مستعد أي واحد منهم أن ينصف الآخر من نفسه، أو أن يحلـُّوا قضيتهم بسهوله، لا تتطور فتصبح قضية تؤدي إلى خلق عداوة، وبغضاء فيما بينهم، ثم فيما بين أسرهم، ثم على أوسع دائرة داخل مجتمعهم.
الناس يستطيعون أن يكونوا أوفياء مع بعضهم بعض، يبذلوا معروفهم لبعضهم بعض، لا أحد يجرح مشاعر الآخر بكلمة سيئة، أو يدخل في باطل فيعين طرف على طرف آخر لكونه يكره الطرف هذا الآخر، فيدخل في باطل، فيعين ظالم على ظلمه.
أشياء كثيرة في متناولنا أن نعملها هي نفسها تهيئ النفوس إلى أن تكون متآلفة، تهيئ المجتمع إلى أن يكون متوحداً. الوعي لفهم الدين، فهم الأمور أيضاً في متناولنا، لكن أحياناً لا يكون في متناولنا نحن أن نصنعه بالنسبة لعامة الناس، لكن إذا اتفقنا على أعمال معينة هي التي ستبني، ستصحح الوعي في ذهنية المجتمع، تجعله يفهم الأمور فهماً صحيحاً، وفق هداية الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، مثل مدارس علمية، مرشدين، عمل لدين الله؛ لأنه حتى صلاح نفوسنا، وزكاء نفوسنا، وأن نكون واعين، وفاهمين، ولدينا قدرة على أن نفهم الأمور كما هي عليه هو مرتبط بالدين أيضاً، مرتبط بالدين؛ لأن من مهام الدين هو أن يزكي النفوس، ويجعلها نفوساً زاكية، وأرواحاً سامية، طاهرة، ويخلق معرفة، ووعياً، وفهماً بالأمور كلها.
ما يستطيع الناس من تلقاء أنفسهم هكذا، لا يستطيعون من تلقاء أنفسهم أن يحصل لديهم الوعي الكافي، الفهم الكافي الصحيح للأمور كيف تتغير من الأسوأ إلى الأفضل، وكيف تكون عواقب هذه الأعمال، أو هذه المواقف التي هم عليها، كيف يكون عواقبها، لا يأتي إلا عن طريق التعاون مع الأعمال الإسلامية، مدارس، مرشدين، علماء، معلمين، وهم ينتشرون في المجتمع فيفهِّموا الناس بدين الله، ومتى ما فهمنا دين الله سنكون واعين حقاً، سنكون فاهمين، سنكون ملتزمين، سنكون صادقين مع بعضنا بعض على أعلى مستوى، ونقف مع بعضنا بعض في كل مواقفنا.
في الحالة هذه ما يستطيع أحد يقهرنا فعلاً، متى ما وصل الناس إلى الحالة هذه عندهم فهم ووعي، عندهم وحدة كلمة، عندهم تعاون، إخلاص لله، خوف من الله، توجه إلى الله، ما يستطيع أحد يقهرهم، ولا يستطيع أحد يضللهم أبداً.
بل الحكومات في هذا الزمن، لاحظوا مع أنه من الأشياء العجيبة – كما قلنا أكثر من مرة – بأنه يتهيأ من قبل الله وضعيات أخرى، الحكومات في هذا الزمن – حتى الحكومات التي هي ديمقراطية – هي نفسها من النوع الذي هو قابل أن يتكيف مع أي مجتمع يفرض نفسه عليها.
لو أننا نحن الزيدية فيما بيننا، كلمتنا واحدة، مواقفنا واحدة، وواعين، ما أحد يستطيع أن يضللنا، لا تلفزيون، ولا رادي، ولا مطوّع، ولا أي جهة، نفهم الأمور سنرى الدولة نفسها تتوجه إلى أن تكيِّف وضعيتها بالشكل الذي يتلاءم معنا، هذا شيء معروف أنه في المجتمعات، خاصة المجتمعات الديمقراطية، أن الناس يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم على الدولة، ويمشـّوا ما يريدوا على الدولة.
أليست تأتي فيها انتخابات؟ الإنتخابات لاحظوا كيف بين تكون، ما هم بينزلوا كلهم بين أيدي الناس؟ كلهم تحت رحمة الناس جميعاً، من عند رئيس الجمهورية إلى عند أصغر واحد مترشح لعضوية مجلس نواب، أو مجلس محلي. أليسوا كلهم بين يقولوا ينزلوا إلى بين أيدينا؟ ينزلوا إلى بين أيدينا يتودد لك، ويتلطف لك؛ لأنهم بحاجة إليك.
هو عندما تكون القضية على هذا النحو فهذه فرصتك أن تغير، أي أليست من أبسط الوسائل للتغيير؟ عندما يكون الناس موقفهم واحد يستطيعوا مثلاً أن يكون لهم ثقل في انتخابات مجالس نواب، في انتخابات مجالس محلية، ما يطلِّعوا إلا أشخاص جيدين، في هذه المحافظة، ومحافظة أخرى، ومحافظة ثالثة، تعرف الدولة الفلانية بأن هذه الأمة تفرض نفسها عليها، تجعل الدولة تحت رحمتها.
نحن نراهم مثلاً كانوا يتمشون مع أحزاب معينه، أو حتى مع مناطق معينة، الدولة تكيف نفسها بالشكل الذي يرضي هذا الطرف، أحيانا تكون قبيلة واحدة، تحتاج تنزل الدولة على رغبتها، وتمشي الأمور بالنسبة لها على ما تريد، وأحياناً شخص واحد، يكون شيخ معه قبيلة بعده، ويفرض نفسه، ويمشـّي الأمور على ما يريد فيما يتعلق ببلاده. لكن متى يحصل هذا عند الناس؟ عندما يفهموا بأنهم سيظلون دائماً تائهين، ومصوتين، وهذا المسؤول عدو الله، وهذا العضو فسل، وهذا ما من أبوه شيء، ولماذا قد الناس هكذا؟ الناس هم نحن، الناس هم نحن، متى ما صلحنا، وفهمنا، استطعنا أن نصحح الأمور، ونصلحها.
ومن العجيب أنه أشياء كثيرة هي بأيدي الناس، لكن الذي يفقدوه هو الوعي، الفهم الصحيح للأمور، وعدم ثقة في كتاب الله، ما بين نثق بكتاب الله حقيقة، ولا بين نخاف من الله بالشكل الذي يجب أن نكون عليه، بين نفصل الأمور على ما يطلع في رؤوسنا، تأتي انتخابات، وكل واحد يقول: ما بِلاّ أصوت لهذا، بعضهم لأنه قد تجمل معه في موقف، أو أعطاه قرضه، أو وعده بحاجة، أو أعطاه فلوس وقت الإنتخابات فصوت له، وهذا صوَّت لهذا، وهذا راح كذا، وهذا راح كذا.
ولاحظ الناس أن الأمور تمشي على خلاف ما يريدون. أليس هذا من المعروف عندنا؟ الأمور سارت خاصة في مديرية [ساقين] في المجلس المحلي ألم تسير الأمور على خلاف ما يريدون، كذلك صعدة كلها محافظة زيدية، وحجة، وعمران، والجوف، كلها بتمشي الأمور على خلاف ما يريدون، وهم الذين يصنعونها هم.
من الذي سيطلَّع من أي منطقة عضو مجلس نواب، وما الناس الذين سيصوتون له؟ وفي الأخير يصيحون منه! من الذي سيطلع المجلس المحلي وما الناس الذين سيصوتون له؟ وفي الأخير يصيحون منه، وفي الأخير يلعنوه، بعضهم في الأخير يلعنوه! أليس البعض في الأخير يلعنونه؟ عضو مجلس نواب، أو محلي، أو.. لكن قبل كل هذه الأشياء هم يكونوا بالشكل الذي يستطيعوا أن يفرضوا وضعية صالحة لأمتهم، ولدينهم، ولأنفسهم.
وإلا فينتظر الناس جيلاً بعد جيل على هذا النحو، يعني با تشيب ويشيب ابنك ونحن منتظرين لذولاك يسبروا مدري منهم! ما يدري واحد أن أساس الغلطة من عنده، من المجتمع جميعاً، وشيَّب ابنه، ومات، ومات ابنه، والأمور كما هي، بل تزداد سوءا، تزداد سوءا فعلاً، ثم تزداد الخطورة على الناس فيما يتعلق بدينهم، فيما يتعلق بمصيرهم عند الله يوم القيامة؛ لأنه كلما فسد الزمان، كلما تعرضت الأمة، كلما تعرضت الأجيال للفساد الديني، كلما تعرضوا لطريق جهنم.
هذا شيء معروف، لا يأتي الفساد فقط يختص بالجانب المادي، أبداً، لا يأتي الضلال يتجه إلى الجانب المادي، جانب الأموال، أموالنا، فلوس، أو مزارع، لا يتجه إليها وحدها أبداً، بل لا يتجه إليها إلا بعد أن يصنع في نفوسنا نحن ضلالاً، تسهِّل المسألة لديه أن يفسد ما يتعلق بأموالنا، سواء نقدية، أو أموال أخرى، لو أن الفساد يتجه فقط إلى الجانب المالي، ثم لا يكون لهذا الجانب مردود فساد، لكانت القضية سهلة.
لكن لا، الضلال، الفساد يتجه إلى الإنسان، إلى نفسه، إلى المجتمع نفسه، وأمواله، يتجه إلى الدين بكله؛ لأن الفاسد متى ما أخذ من أمولك فين بيشغلها؟ في الإصلاح، أو في الإفساد؟ يشغلها في الإفساد؛ ولأنه معلوم أن الإفساد لا يتجه فقط إلى جانب المال، بدليل أن كل دوله، ما كل دولة يكون معها؟ سواء محقة، أو مبطلة، دول الضلال؟ ما بيكون معها وسائل إعلام؟ تعمل مدارس، جانب تربوي، عندها وزارة إعلام، عندها وزارة ثقافة، عندها إذاعة، تلفزيون، صحف، كتَّاب.
أين يتجه هذا العمل؟ أين يتجه؟ هل هو يتجه إلى الأراضي؟! أو إلى النفوس؟ إلى النفوس يتجه، إلى الإنسان، هـم ما هـذه أمريكا نفسها، وكـل دولـة ما معهم وزارة إعـلام، ووزارة ثقافة، ووزارة تربية وتعليم؟ لديها صحف – كآليات – صحف، مجلات، كتَّاب، صحفيين، إذاعة، تلفزيون، مناهج دراسية، هذه أين تتجه؟ ما هي تتجه إلى النفوس لتصنعها على كيفية معينة؟.
ما هناك شيء في الدنيا فساد أو ضلال يتجه إلى الجانب المادي. إذا كان الناس في وضعية فاسدة معنى هذا بأن الخطورة عليهم ليست فقط فيما يتعلق بأموالهم، أو ظلم مادي عليهم، بل تتجه المسألة إلى إفساد دينهم، إفساد نفوسهم، فيتحولون إلى أعداء لله من حيث لا يشعرون، يتحولون إلى أعداء لأولياء الله من حيث لا يشعرون، يتحولون إلى ربما أولياء لليهود والنصارى من حيث لا يشعرون، فيتحولون إلى أن يكونوا من حزب الشيطان، نعوذ بالله، والله قال عن الشيطان: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(فاطر6) وحتى أحياناً لو حاول واحد يقدر أما هو أنه سابر، فليس صحيحاً.
إذا رأيت الفساد ينتشر لا تقدر بأن عادك يمكن أن تأكل أنت لقمة حلال، إذا الفساد ينتشر فلا تقدر أما أنت فيما يتعلق بدينك أنه سابر؛ لأنه أنت واحد من المقصرين عن أشياء مهمة؛ لأننا نفهم الدين فهماً محدوداً.
متى ما جاء أحد إلى نفسه قال: [والله من فضل الله لا سارق، لا زاني، لا قاتل نفس محرم، لا قاطع سبيل، لا شارب خمر، مصل، وصائم، مزك، حاج، ما لي حاجة من أحد] هـذه أيضاً واحدة منها، من الأشياء الإيجابية، [ما لي حاجه من أحد، لا أتدخل في أي قضية] ما هاتين الخصلتين إيجابية يعدونها؟ وفي الأخير ينظر لنفسه بأنه أما هو فهو كامل يعني. منتظر الزمان [بده يسبر، بده لا] أما هو فقد هو سابر، في الأخير سيموت ويدخل الجنة! لا، كل إنسان مسؤول، وكل إنسان مقصر.
التقصير يلحق كل واحد مننا، إذا رأينا أنفسنا مقصرين بشكل واضح، نعرف بأننا مقصرين يكون هناك أعمال نحن نعرف أنها أعمال صالحة، وأنها مهمة في مجال إصلاح المجتمع، في مجال إعلاء كلمة الله، مثلاً المدارس هذه المنتشرة، ما كل واحد عارف مننا أنها مشروع جيد، وأنها من الأعمال الجيدة، وأنها إعلاء لدين الله؟.
كل واحد يعرف هذه، لكن تجدنا لا نتعاون معها إلا القليل من الناس، وبالقليل مما لديهم، أليس هذا يدل على أننا مقصرين جميعاً؟ هل كل شخص من المجتمع يتعاون معها؟ القليل من الناس، بدليل أنها لم تستطع أن تتحرك بالشكل المطلوب، ما استطاعت أن يكون لها دور كبير في إصلاح المجتمع.
هذا جانب كل واحد يشهد بأننا مقصرين فيه، أو الغالبية من الناس مقصرين فيه، فالمسألة تبدأ من أن يفهم الناس دينهم، ويفهموا مسؤوليتهم أمام دين الله، فمتى ما استقام الدين فينا، متى ما فهمنا ديننا استقامت نفوسنا، وزكت نفوسنا، واتسعت معرفتنا، وفهمنا للأمور، وفهمنا خطورة بعض الأشياء التي نحن عليها، ولا نهتم بها، ونعتبرها أشياء بسيطة، مثل حالة اللامبالاة.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
[ الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]


تحميل ملف PDF