النباء اليقين

ماذا تخلفت السعودية عن دعم الحريري في الانتخابات البلدية

أحمد التلاوي

لا يوجد بلد تلقي السياسات والأزمات الإقليمية بظلال تأثيراتها عليه، في العالم، مثلما يحصل في لبنان، ولئن كان هناك دلالة لذلك، فإنها تبقى أن تشير إلى أن أزمات لبنان سوف تبقى مستمرة أبدًا، في ظل وقوع هذا البلد في شِرَاك منطقة تُعتبر من أكثر مناطق العالم اشتعالاً بالأزمات، وعدم استقرار جيوسياستها إلى الآن بفعل اتفاقية “سايكس – بيكو” ومكملاتها مثل اتفاقية “سيفر” التي أرست قواعد حدود الأزمات الحالية في المشرق العربي.

ويعود ذلك إلى طبيعة لبنان ذاته، والذي لم يستقر له شكلٌ محدد بعد للدولة، سواء على مستوى الحدود أو الهوية الوطنية، في ظل استمرار تجاذب هويات أخرى، وطنية وسياسية أكبر وأقوى، للمجموعات البشرية التي تضمها الرقعة الجيوسياسية المعروفة باسم “دولة لبنان”.

والمتأمل لتاريخ لبنان السياسي، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، يجد أنه دائمًا ما كان عرضة لمحاولات هيمنات خارجية، كانت الطائفية هي الرد عليها، مما مثل بيئة خصبة لصراعات أهلية متواترة، بدءًا من الحرب الأهلية في العام 1860م، وحتى الآن، مرورًا بأزمة العام 1958م، والحرب الأهلية الكبرى في الفترة من العام 1975م وحتى العام 1990م.

وعند النظر إلى الحدث السياسي الكبير الذي جرى في لبنان مؤخرًا وهو الانتخابات البلدية؛ سوف نجد هذا الذي نقول واضحًا، حتى بالرغم من قول البعض بوجود مؤشرات على تغير بنية خرائط التحالفات وتوزيع القوى في هذا البلد، من خلال نتائج الانتخابات.

ومن بين أقوى مؤشرات ذلك، قيام حزب القوات اللبنانية الماروني الذي يتزعمه مجرم الحرب السابق سمير جعجع، أحد “أبطال” مذبحة صبرا وشاتيلا، بدعم قائمة اللواء أشرف ريفي وزير العدل المستقيل من الحكومة والمرشح لأن يكون الواجهة السُّنِّية في لبنان خلال المرحلة القادمة في مناطق الشمال وخصوصًا في طرابلس.

هذه التغييرات لا تتعارض مع أهم حقيقة سياسية في لبنان، وهي أن الطائفة هي محرك الأحداث في هذا البلد، وكل ما يجري فوق السطح وأسفله فإنه يتحرك بموجب هذه الحقيقة الراسخة، حيث إنه عندما أرادت أطراف عديدة في الداخل والخارج، إزاحة شخوص وقوى لحساب شخوص وقوى أخرى، كانت الطائفية والحزبية المعبرة عنها، هي المفتاح.

معالم مهمة في الانتخابات ونتائجها

حفلت الانتخابات اللبنانية بالعديد من المتغيرات – كما تقدم – كان من بين أهمها اكتساح قائمة “قرار طرابلس” المدعومة من الوزير ريفي، لمقاعد المجلس البلدي في طرابلس، حيث حصلت على 18 مقعدًا من مجموع 24 مقعدًا.

في المقابل، حصلت قائمة “لطرابلس”، التي يدعمها رئيس الوزراء الأسبق سعد الدين الحريري، زعيم “تيار المستقبل”، ورئيس الوزراء السابق، نجيب ميقاتي، والوزير السابق، فيصل كرامي ابن عائلة كرامي الطرابلسية الكبيرة، والوزير والنائب محمد الصفدي، على المقاعد الستة الباقية.

ويؤذن ذلك بإزاحة سطوة الحريري بالذات والعائلات الكبيرة الأخرى، عن أحد أهم معاقل السُّنَّة في لبنان، وتأطير ريفي كأحد أقوى الشخصيات السياسية السُّنِّية في لبنان بشكل عام.

ولم يكن تراجع الحريري قاصرًا على طرابلس والشمال، حيث امتدت إلى بيروت نفسها، ومن بين مؤشرات ذلك، حصوله على أصوات 30% فقط من المستقلين في أحد أحياء المدينة ذات الطابع السُّنِّي.

نفس الموقف واجهه تحالف “التيار الوطني الحر”، و”القوات اللبنانية”، في عدد من البلدات المسيحية الأساسية، من بينها تنورين والقبيات في شمال البلاد كذلك، والذي يبدو أن عواصف سوريا قد انتقلت إليه سياسيًّا، كما انتقلت إليه قبلاً أمنيًّا، في اشتباكات جبل محسن.

وبالرغم من أن قائمة تحالف “حزب الله – أمل” الشيعي قد نجا من السقوط في معاقل رئيسية له، إلا أنه بات من الواضح أن هناك تراجع كبير في الموقف الشعبي لكليهما، ربما على خلفية موقف “حزب الله” في الحرب السورية، حيث فازت القائمة بـ 54% من مجموع الأصوات في معاقل سابقة لهم.

كما تراجعت شعبية الحزب والحركة في العديد من مناطق نفوذهما أو كانت تابعة بشكل تلقائي لـ “التيار الوطني الحر”، الشريك الأساسي للحزب في “تحالف قوى الثامن من آذار”، بسبب الاصطفافات الحزبية والعائلية التي تغيرت اتجاهاتها في الفترة الأخيرة.

السعودية والتدخل في لبنان

حظي تحالف ريفي بدعم المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، وهو ما يلقي ظلالاً على مستقبل سعد الحريري وتياره السياسي، بعد وضوح أن ريفي في سبيله لأن يكون رجل السعودية الجديد في لبنان، في لحظة حساسة للصراع الحالي بين المملكة وبين إيران، والتي تجري بالوكالة بين حلفائهما، في لبنان.

ومن الواضح أن هذا التحول يتم الترتيب له من فترة طويلة، في ظل ممانعة يبديها الحريري لضغوط سعودية لتصعيد الموقف ضد حزب الله في الداخل اللبناني، تخوفًا من تكرار أزمة مايو 2008م، التي اندلعت بسبب قرارات حكومية إزاء قيادات أمنية موالية لحزب الله.

فعندما قررت حكومة الأقلية برئاسة فؤاد السنيورة مصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بحزب الله، وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير الموالي للحزب، وقعت اشتباكات في العاصمة بيروت ومناطق أخرى من جبل لبنان، بين تيار المستقبل والحزب الاشتراكي التقدمي الذي يتزعمه وليد جنبلاط، وبين حزب الله وأحزاب أخرى داعمة له، انتهت بسيطرة حزب الله على العاصمة، ولم تنته الأزمة إلا بعد تراجع الحكومة اللبنانية عن قراراتها المتقدمة.

هذا الموقف لم يشأ الحريري تكراره مرة أخرى، إذا ما استجاب للمطالب السعودية، وخصوصًا بعد اتهام الرياض للحزب بدعم الحوثيين في اليمن، وكذلك عقب التصعيد السعودي الأخير ضد لبنان على خلفية أزمة المملكة مع إيران، بعد إعدام الرياض لرجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، في يناير الماضي، حيث أوقفت الرياض مساعدات عسكرية بثلاثة مليارات دولار للجيش اللبناني، وحزمة مساعدات أخرى للحكومة اللبنانية.

#أحمد التلاوي باحث مصري في شئون التنمية السياسية، كاتب في موقع ومجلة “بصائر”، صدر له: “أمتنا بين مرحلتين”، و”دولة على المنحدر”، و”الدولة في العمران في الإسلام”، و”إيران وصراع الإصوليات في الشرق الأوسط”.