النباء اليقين

مياه الأمطار.. الكنز المهدور!

الهدهد /أخبار محلية

وليد أحمد الحدي
كنت قد تحدثت في مقال سابق عن أهمية الاستثمار الزراعي وانعكاساته على الاقتصاد الوطني والفرد، وهنا لا يمكن الحديث عن هذا الجانب دون النظر إلى أهم مدخلاته وهو الماء الذي بدونه لا تستقيم الحياة ولا نستطيع حل مشكلات كثيرة لا تنحصر في الزراعة فقط.
كان لهذا العنصر دور كبير في نشوء حضارات وبلدان تركزت حول منابع المياه والأنهار، فالسدود والحواجز كانت احدى المرتكزات التي قامت عليها الحضارات اليمنية القديمة والتي أدركها الإنسان اليمني بذكائه الفطري منذ فجر التاريخ الإنساني، وكان أشهر ما شيده سد مأرب وصهاريج عدن التاريخية وذلك بُغية حجز أكبر قدر ممكن من مياه الأمطار لتلبية احتياجاته للزراعة، كما أن حضارة بلاد الرافدين والنيل ما كان لها أن تكون لولا وجود تلك المياه الوفيرة التي استقطبت الآلاف من المزارعين ليؤسسوا بعد ذلك تجمعات سكانية أنتجت دولاً وحضارات اسمها لا زال يضيء صفحات التاريخ البشري حتى اليوم، وما النزاع اليوم القائم بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة إلا في إطار التنافس على منابع المياه التي تعد هي الحياة. الحياة التي أساسها الماء مصداقا لقوله تعالى ” وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ” الأنبياء 30.
وبحسب خبراء في مجال المناخ والأرصاد فإن اليمن قد يتعرض بسبب موقعه الجغرافي (جنوب خط عرض 25 شمال خط الاستواء)، لزيادة محتملة في معدل سقوط الأمطار نتيجة بعض التغيرات المناخية وارتفاع حرارة الأرض، وهذه نعمة جليلة لا ينبغي عدم استغلالها في ظل استنزاف خطير للمياه الجوفية, حيث أن الكميات المسحوبة تتجاوز بكثير التغذية السنوية لها، وتشير الإحصائيات التي تقدر موارد المياه الجوفية المتجددة بـ1500 مليون متر مكعب في السنة بينما يبلغ الطلب السنوي على المياه للاستخدام المنزلي والصناعي والاستهلاك الزراعي حالياً 3.900 مليون متر مكعب سنوياً، وهو ما يتجاوز بكثير الموارد المتجددة من كل من المياه السطحية والمياه الجوفية البالغة 2.500 مليون متر مكعب في السنة..!!
العاصمة صنعاء عاصمة الجمهورية اليمنية التي لا توجد فيها شبكة تصريف للمياه وهي ظاهرة قل نظيرها في العالم رغم أهميتها والأموال الطائلة التي تورد إلى خزينة الدولة خلال الفترة الماضية، ورغم ما يتكبده المواطن من رسوم خاصة بالصرف الصحي شهرياً ولعشرات السنوات كفيلة بتأسيس شبكات مجاري في عموم مدن الجمهورية وليس في صنعاء فقط التي لا زالت تعاني اليوم الكثير من الإشكاليات بسبب ذلك الإهمال؛ فمياه الأمطار التي تتجمع في الشوارع الرئيسية نتيجة نزولها من الجبال المحيطة مشكّلةً سيولاً وبُحيرات وسط العاصمة وتتسبب بأضرار لطبقة الاسفلت لا يستفاد منها البتة؛ و بعد أن تحدث الضرر البالغ في إعاقة حركة المرور وغيره تذهب في النهاية إلى الصحراء دون الاستفادة منها رغم حاجة المزارع الماسة وحاجة حوض صنعاء المقارب على النضوب لها، وحقيقةً لا أدري ما هو نوع الفساد الذي منع السلطة في تلك الفترة من تأسيس شبكة مجاري في شوارع العاصمة للاستفادة من ذلك الكنز المهدور الذي يشكل حلاً ناجعاً لمشكلات جمة.
ومن المفارقات العجيبة أن يُكرّس جهد كبير لمعالجة المشكلة الخاصة بتناقص منسوب المياه في البئر الارتوازية الخاصة بدار الرئاسة في منطقة الستين الجنوبي وذلك عن طريق صنع حفرة كبيرة تتجمع فيها مياه الأمطار لتغذية البئر هناك, رغم حاجة اليمنيين لمثل تلك الحلول في معظم آبار مدينة صنعاء وكثير من أرياف اليمن والتي يتناقص منسوب المياه فيها بمعدل 6 أمتار سنوياً، وفي الوقت الذي يغرق فيه المواطنون بمركباتهم وسط شوارع العاصمة وقت سقوط الأمطار الكثيفة متسببين بحالة ارباك واختناقات مرورية، ودون أن يُعار لذلك أي أهمية..!!
ماذا لو تم تخصيص تلك الأموال الخاصة برسوم الصرف الصحي التي كان ولا يزال يدفعها المواطن شهرياً لإنشاء شبكة تصريف للمياه بمقدرتها استيعاب ذلك الكم الهائل من مياه الأمطار التي تهطل بغزارة لأكثر من ثلاثة أشهر خلال موسمي الصيف والخريف, ثم تصب في صهاريج عملاقة خارج العاصمة بحيث يستفاد منها كمياه سطحية يُعالج منها ما يكفي للري والشرب وإعادة تغذية المخزون الجوفي الذي هو على وشك النضوب في ظل مزيج من النمو السكاني المرتفع واستنفاد موارد المياه ؟!!
ألسنا بحاجة إلى ذلك الكنز المهدور الذي قد نندم فيه على كل قطرة مياه فرطنا فيها وقد نلجأ مضطرين إلى تأسيس محطات تحلية باهظة الثمن ستؤدي تكاليفها إلى رفع سعر المياه للسكان بالمجمل ؟!!
ولكي نُدرك قيمة ذلك الكنز الذي صنع من اليمن يوماً ما يمناً سعيداً فلنتابع الإحصائيات الأخيرة التي تشير إلى أن الزراعة المطرية التي كانت تشكل نسبة كبيرة من الإنتاج المحلي للحبوب خلال السنوات الماضية وانخفضت بسبب تذبذب هطول الأمطار, باتت اليوم بحاجة ملحّة إلى بناء وتشييد السدود والحواجز المائية في كثير من مناطق اليمن أكثر من أي وقت مضى؛ لأن كمية الأمطار التي يحتاجها المزارع تذهب سُدى دون الاستفادة منها وتصب في النهاية إما إلى البحار أو إلى الصحاري، واليمني لم يعرف طعم السعادة والاستقرار إلا حين كان يزرع وينتج ويُصدر, وكانت موانئه تعُج بمئات المستوردين من مختلف الجنسيات يقصدونه من أقصى بلدان العالم لشراء منتجاته.
رئيس الجمعية اليمنية لحماية وتشجيع الإنتاج المحلي*