النباء اليقين

نص كلمة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي – يوم القدس العالمي 1441هـ

أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

يوم الغد باعتباره آخر جمعة من شهر رمضان المبارك هو يوم القدس العالمي، الذي أعلنه ودعا إليه الإمام الخميني -رضوان الله عليه-؛ ليكون مناسبةً مهمةً على المستوى التوعوي والتعبوي للأمة، لاستشعارها للمسؤولية، وتذكيرها بواجبها الكبير تجاه قضية من أهم قضاياها، بل هي تحتل المرتبة الأولى في القضايا المعاصرة التي تتعلق بها مسؤولية كبيرة على الأمة، وهي فرصةٌ مهمة للحديث عن هذه القضية من حيث الخطورة، ومن حيث التذكير بالمسؤولية، ومن حيث الرؤية اللازمة التي ينبغي أن تتحرك على ضوئها الأمة بحسب مسؤوليتها، وبحسب مستوى الخطورة عليها من جانبٍ عدوٍ لدود، هو: العدو الإسرائيلي.

وفي هذه المناسبة من المهم التذكير بالأهمية وبحجم هذه القضية، التي عادةً ما يسعى الأعداء والعملاء إلى تقديم صورة مختلفة عنها لدى الأمة؛ حتى تؤثِّر على الموقف العملي للأمة تجاه هذه القضية، فمن أول ما نحتاج إليه هو: كيف نستشعر أهمية هذه القضية، ومستوى حجمها، ومستوى خطورتها.

العدو الإسرائيلي الذي يحتل بلداً هو جزءٌ من هذه الأمة، جزءٌ من الأرض الإسلامية، ويضطهد شعباً هو جزءٌ من هذه الأمة نفسها، من المسلمين: الشعب الفلسطيني، ويحتل أيضاً أجزاء أخرى من بلدان مسلمةٍ أخرى، ويحمل عداءً شديداً للأمة الإسلامية بكلها، ويحمل طموحاً وتوجهات للسيطرة العامة على هذه المنطقة بكلها، وعلى هذه الأمة بكلها، هو عدوٌ خطير، وقضية بهذا الحجم هي تحتاج إلى اهتمام والتفات جاد، وتستحق الالتفاتة الجادة نحوها من أبناء الأمة.

لربما الكثير من أبناء الأمة بات التصور الراسخ والسائد لديهم تجاه هذه القضية: أنَّ العدو الإسرائيلي تقتصر خطورته وتقتصر المشكلة معه على الإطار الجغرافي الذي يتواجد فيه حالياً، فهو عدو مشكلتنا معه أنه قد احتل بلداً معيناً، وهو يشكِّل تهديداً على مقدسات معينة، حتى بهذا المستوى، حتى لو كانت النظرة محدودةً على هذا النحو، فالقضية تمثِّل أهميةً كبيرة في موقعها من مسؤولية الأمة الدينية، والتزاماتها الدينية؛ لأننا نحن المسلمين في ثقافتنا، في التزاماتنا الإيمانية الدينية، نعتبر أنَّ أيَّ جزءٍ من أبناء الأمة على المستوى الجغرافي: أرض معينة من بلاد المسلمين، أو أيَّ جزءٍ من الأمة نفسها: منطقة معينة، سكان بلد معين اضطهدوا وهم ينتمون للإسلام، فنحن كمسلمين نتحمل مسؤوليةً في وجوب أن نسعى ونعمل إلى طرد العدو من أي بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي يحتلها، حتى ولو كانت شبراً واحداً.

وكذلك على مستوى المسؤولية تجاه أي جزء من أبناء الأمة، مسلمين هنا أو مسلمين هناك يضطهدون، أن نسعى لنصرتهم، أن نسعى لمعونتهم، أن نكون إلى جانبهم، أن نبذل ما نستطيعه من أجلهم، ولكن حجم هذه المشكلة ومسؤوليتنا أيضاً نحوها أكبر بكثيرٍ من ذلك، ففي فلسطين أيضاً مقدسات على رأسها المسجد الأقصى الشريف من مقدسات الأمة، وهنا تكبر المسؤولية في العمل لدحر العدو ولطرده؛ ولذلك اختار الإمام الخميني -رضوان الله عليه- أن يكون العنوان يوم القدس؛ لتذكيرنا أيضاً بمستوى مسؤوليتنا، وبحجم هذه القضية فيما تعنيه لنا بحسب الرمزية والأهمية الكبيرة للمقدسات الإسلامية في ثقافتنا الإسلامية، وضمن التزاماتنا الدينية؛ لأن المقدَّسات من الركائز التي تتمحور حولها الأمة، ولها رمزيتها الكبيرة التي تحفظ للأمة- ما دامت متمحورةً حولها- تحفظ لها أن تكون أمةً قويةً، ولها ما يجمعها، لها ما يربطها، لها ما تتمحور حوله… وأشياء مهمة، مقدَّسات ذات أهمية كبيرة بحسب انتمائها الإيماني والديني.

في نفس الوقت العدو الإسرائيلي يمثِّل خطراً كبيراً على الأمة بكلها، في كل أقطارها، وفي شتى بلدانها، ولا تقتصر خطورته وشره على أنه يظلم بعضاً من الأمة، والأمة بالفعل تتحمل مسؤوليةً للتعاون معهم، بل خطورته تعم الأمة بكلها، وخطورة كبيرة، لا تقتصر على مستوى التهديد العسكري، أو التهديد الأمني، بل هي تتعدى ذلك، وهذا ما سنحرص على الحديث عنه على نحوٍ من التفصيل- إن شاء الله- في هذه الكلمة.

ثم عندما نأتي إلى هذه القضية، ونأتي إلى الموقف الذي هو سائد في واقع الأمة تجاهها، فنحن سنجد أنها- وللأسف الشديد- من أكبر القضايا التي لم تحظ بالاهتمام المطلوب من المسلمين، ولم يرق اهتمام الأمة بها إلى مستوى المسؤولية، ولا إلى مستوى الخطورة، وهذا شيءٌ واضح في واقع الأمة، قضية كبيرة جدًّا، وخطيرة للغاية، ولكن مستوى اهتمام الأمة بهذه القضية لم يرق إلى مستوى مسؤوليتها، ما عليها من المسؤولية تجاه هذه القضية، ولم يرق إلى مستوى الخطر الحقيقي لهذه المسألة، منذ بداية هذه المشكلة وإلى اليوم، ما عاد القلة القليلة من أبناء الأمة، ولكن على المستوى العام والمستوى الإجمالي.

وعلى سبيل المثال: ليس هناك توجه واضح وبارز على المستوى الرسمي والشعبي في الأمة الإسلامية لدى أغلب أبناء الأمة- والاستثناء هو القليل- في أن يدرسوا هذه المشكلة جيداً، وأن يبحثوها بحسب حجمها وأهميتها وبجدية كبيرة، فيخرجوا برؤية واضحة، يتحركون على ضوئها في هذه القضية، وبحسب مسؤوليتهم عنها، هذا شيءٌ غائب، ليس هناك حتى في هذه النقطة التي تفترض أن تكون هي الخطوة الأولى التي ركَّزت عليها الأمة تجاه هذه القضية، هذا غائب.

ثم تسود في واقع الأمة الكثير من المواقف الارتجالية، والمواقف المستعجلة، التي لم تنطلق من خلال رؤية مدروسة كما قلنا، وإنما بناءً على الانطباعات والمفاهيم العامة لديها، تتبنى مواقف من هنا أو هنا، مواقف ارتجالية، وليست مواقف عميقة، ومواقف مدروسة، ومواقف عملية فعَّالة تصل بالأمة إلى نتيجة ملموسة، وتخضع للتقييم المستمر في كل المراحل، هذا غائب عن واقع الأمة في أكثر واقع الأمة.

ونجد من خلال التشخيص والتقييم للواقع العام لأبناء الأمة: أنَّ الخيارات التي عليها واقع الأمة حالياً هي: السكوت والجمود لفريقٍ كبيرٍ من أبناء الأمة، لماذا؟ لأن الحالة التي كانت سائدة في واقع الأمة، هي: أنَّ الذي يتصدر المشهد هي الجهات الرسمية، والجهات الرسمية في عالمنا العربي والإسلامي كانت مواقفها متخبطة إلى حدٍ كبير، ومواقف ليست مواقف ذات رؤية واضحة، وعمل مستمر، كما قلنا مواقف ارتجالية، يأتي أحياناً اجتماع، يأتي أحياناً مؤتمر، تأتي أحياناً قمة، ولم تكن بالمستوى الجاد كما ينبغي، ولم تكن أيضاً تعتمد على وضوح وعلى مفهوم صحيح، بينما كان ينقصها كل عوامل النجاح، كل عوامل النجاح لا تتوفر في التعاطي الرسمي على المستوى العربي، وعلى مستوى معظم الدول في عالمنا الإسلامي.

وأتت الحالة الشعبية لتكون في أغلبها حالة تابعة للجانب الرسمي، وجامدة؛ لأنها تكل الأمر إلى الجانب الرسمي، وتعتبر نفسها غير معنية، وأنه هو الذي سيتحمل الدور بكله، فكان الواقع لدى أغلب أبناء الأمة هو حالة من الجمود والسكوت، مع وجود حالة من التعاطف- لربما- عند أغلب أبناء الأمة، التعاطف إلى حدٍ ما، والألم عندما تبرز أحداث معينة، عندما تأتي مجازر وحشية معينة، عندما تحصل أحياناً في بعض المحطات التاريخية كذلك مظالم كبيرة.

وجزءٌ آخر من أبناء الأمة على المستوى الرسمي، ويتفاعل معه البعض على المستوى الشعبي، ولربما ليسوا هم أكثرية، ولكنهم حاضرون بتفاعل أكبر، ووضوح أكثر مع الوقت، وهم الذين اتجهوا نحو العمالة، ونحو الخيانة، ونحو الوقوف في صف العدو، والسعي إلى أن يدخلوا في علاقات وتحالفات مع العدو، هؤلاء هم أيضاً اتجهوا هذا الاتجاه بعيداً عن الموقف الصحيح الذي يجب أن تكون عليه الأمة.

جزءٌ من أبناء الأمة وقفوا أيضاً المواقف الإيجابية والجيدة بحسب التقييم العام، فاتجهوا في البداية إلى التصدي للخطر الإسرائيلي، والمواجهة مع العدو الإسرائيلي، وكان توجههم توجهاً برؤية ناقصة، اهتمام على المستوى العسكري فحسب، وبنواقص كبيرة، حتى على مستوى ما يضمن نجاح الخيارات العسكرية، والأداء العسكري، فاتجهت مثلاً في مراحل معينة من تاريخ هذه الأمة بعض من الأنظمة العربية والجيوش العربية وخاضت حرباً عسكرية ضد إسرائيل، ولكنها فشلت، وهزمت في تلك الحروب العسكرية وللأسف.

ونجد مثلاً الفارق الكبير بين الأداء العسكري للجيوش العربية التي خاضت في مراحل معينة مجتمعةً المعركة مع العدو الإسرائيلي، والفارق مثلاً في أداء حزب الله في لبنان، أو المقاومة في غزة، في مستوى الأداء العسكري، والفاعلية في هذا الأداء على المستوى العسكري، بالرغم من الفارق الكبير جدًّا على مستوى الإمكانيات والعدد والعدة، ولكن هذا يوضِّح لنا كيف أنَّ الخيار العسكري والأداء العسكري حتى هو بحد ذاته لم ينطلق على أساس رؤية تساعده على النجاح، وتجعل منه خياراً ناجحاً وفاعلاً.

في هذا كله دروس وعبر، وفي هذا كله نظر، يحتاج من الأمة إلى أن تعود لتلتفت بجدية لدراسة هذا الواقع بكله؛ ولذلك نأتي إلى الحديث في هذه المناسبة عن هذه المسألة، عن هذه القضية، عن هذا الخطر، عن هذا التحدي، ومن خلال الرؤية القرآنية التي قدَّمها السيد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه-.

السيد حسين بدر الدين الحوثي لاحظ على أنَّ معظم التعاطي من أبناء الأمة، والتفاعل والتعامل مع هذه القضية، يبتعد إلى حدٍ كبير عن مسألة العودة إلى القرآن الكريم، بل غابت إلى حدٍ كبير عملية الدعوة إلى العودة إلى القرآن الكريم؛ للاستفادة منه، والاهتداء به في مواجهة هذه المشكلة، وهذه ملاحظة مهمة، وملاحظة بارزة، وملاحظة خطيرة جدًّا؛ لأن الشيء الطبيعي المفترض بهذه الأمة وهي أمة تنتمي للإسلام، وأهم وأعظم ما لديها ككتاب هداية ومصدر هداية هو القرآن الكريم، وكان الشيء الطبيعي أن تعود إليه، وأن تستفيد منه، لأن القرآن الكريم ككتاب هداية لا تقتصر هدايته على جوانب محدودة وبسيطة في واقع الحياة، وإنما هو كتاب هداية لهذه الأمة، يهديها للتي هي أقوم في كل المسائل التي تحتاج فيها إلى هداية، في كل القضايا التي تحتاج فيها إلى هداية، ومن أهم وأكبر ما تحتاج فيه الأمة إلى هداية القرآن الكريم، هو: هذه المشكلة، هو هذا الخطر، هو هذا التحدي، تحتاج فيه الأمة إلى هداية الله -سبحانه وتعالى-، والله -سبحانه وتعالى- قدَّم الهداية الكافية في كتابه المبارك في القرآن الكريم، ولكن غابت الدعوة إلى العودة إلى القرآن الكريم إلى حدٍ عجيب في واقع الأمة.

وعندما أتت هذه الدعوة بالعودة إلى القرآن الكريم، أيضاً كان التفاعل معها ضعيفاً من كثيرٍ من أبناء الأمة، بل ومستغرباً من البعض، فهم لا يتصورون أنَّ في القرآن الكريم رؤيةً يمكن أن تعتمد عليها الأمة، وأن تستفيد منها الأمة في التعامل مع هذه المشكلة.

القرآن الكريم قال الله عنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: من الآية9]؛ وبالتالي فعلينا أن نؤمن بأنه سيقدم أرقى رؤية للأمة تعتمد عليها في مواجهة هذا الخطر وهذا التحدي، وفي التعامل مع هذه القضية بما يضمن النجاح.

الله -سبحانه وتعالى- قال عن القرآن الكريم: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الفرقان: من الآية6]، فالله -سبحانه وتعالى- الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ويعلم الغيب والشهادة، ألَّا يمكن أن يكون قد قدَّم لنا في كتابه هذا وفيما أنزله هدايةً تفيدنا في التعامل مع هذه القضية، في مواجهة هذا الخطر وهذا التحدي.

الله -سبحانه وتعالى- قال في القرآن الكريم وهو يقدِّم عرضاً مهماً، وتشخيصاً مهماً، وينبه على مؤامرات معينة من جانب الأعداء، من جانب اليهود أنفسهم، قال أيضاً كلمةً مهمة: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ}[النساء: من الآية45]، وهذه كلمة في غاية الأهمية؛ لأنه قدَّمها في سياق ما يحدِّثنا عنهم، فهو يتحدث عنهم، عن مؤامراتهم، عن خطورتهم، عما ينبغي في مواجهتهم، ثم يقول هذه الكلمة التي هي في غاية الأهمية: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ}، فما يقدِّمه هو من واقع ما يعلمه، وهو الأعلم بهم، الأعلم بهم منا، والأعلم بهم من كل أحد، من كل من يمكن أن يقدِّم رؤية، أو أن يقدِّم تصوراً، أو أن يقدِّم عرضاً، أو أن يقدِّم تقييماً، أو تشخيصاً، أو فكرةً عن الموضوع، الله -سبحانه وتعالى- هو الأعلم، وهو الذي يعلم الغيب والشهادة.

ثانياً: نجد أنَّ القرآن الكريم تحدث عن اليهود بشكلٍ خاص، وعن أهل الكتاب بشكلٍ عام في مساحة كبيرة من الآيات القرآنية، المئات من الآيات القرآنية، والمساحة الواسعة التي تحدثت عنهم: في سورة البقرة، في سورة آل عمران، في سورة النساء، في سورة المائدة… في كثيرٍ من السور القرآنية التي تحدثت عنهم حديثاً واسعاً، وحديثاً متنوعاً، وقدَّمت عرضاً تفصيلياً نستفيد منه تشخيص المشكلة في منشأها، نستفيد منه التقييم الكامل للعدو، نستفيد منه معرفة كل نقاط القوة والضعف في واقعنا وفي واقع العدو، نستفيد منه الرؤية العملية التي يمكن من خلالها أن نصل إلى النجاح الكامل، والنصر العظيم، ونصل إلى الفتح في مواجهتنا لهذا العدو.

القرآن الكريم تحدَّث أولاً في تشخيصه لمنشأ المشكلة في آيةٍ قرآنيةٍ مهمة، نتحدث على ضوئها، ثم ندخل إلى بقية التفاصيل، يقول الله -جلَّ شأنه- عن اليهود، وعن بني إسرائيل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران: الآية112]، في الآية المباركة يبين الله -سبحانه وتعالى- أنه قد ضرب {عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، و{أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} تشمل كل مكان وكل زمان، وهذه نقطة يجب أن نلتفت إليها، أين ما وجدوا في كل زمن من يوم أن ضربت عليهم الذلة، وفي أي مكان منذ أن ضرب الله عليهم الذلة، ولأنهم قد ضربت عليهم الذلة، فهذا سيجعلهم في وضعية يكون فيها مهزومين، مقهورين، مغلوبين، لا يستطيعون أن يكونوا في حالةٍ يبنون لهم فيها كياناً حاضراً في الساحة، وأن يقارعوا الآخرين، وأن يغلبوا الآخرين، وأن يهزموا الآخرين، أن تكون الذلة مضروبةً عليهم، يعني: أن يكونوا هم في وضعيةٍ يكونون فيها في حال قهرٍ، وفي حال خنوع، وفي حالة استسلام، لا أن يكونوا هم من يغلبون الآخرين، أو يقهرون الآخرين، أو يواجهون الآخرين، أو يسيطرون على الآخرين، فـ{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} يدخل تحتها وضعية يكونون فيها في هذه الحالة، وهذا نصٌ مهمٌ جدًّا.

ويأتي بعده: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، ليشمل كل زمانٍ ومكان منذ أن ضُربت عليهم تلك الذلة، ثم يأتي هذا الاستثناء، وهو مهمٌ لنا نحن المسلمين: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، هذا الاستثناء مهمٌ جدًّا؛ لأننا في زمن تحقق فيه هذا الاستثناء: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}، لا يمكن أن يخرجوا عن تلك الوضعية التي يكونون فيها في حالة شتات، في حالةٍ يكونون فيها مقهورين، مغلوبين، مستذلين، لا يستطيعون أن يغلبوا أحداً، ولا أن يهزموا أحداً، هذه الحالة من الاستثناء تبين أنه لا يمكن أن يخرجوا عن تلك الوضعية، وأن يهزموا أحداً، أو يغلبوا أحداً، أو يسيطروا على أحد، إلَّا وفق هذا الاستثناء: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}.

ما هو الحبل من الله؟ المفسرون بكل تأكيد يقولون: أنه التسليط الإلهي، إذا سُلِّطوا من قبل الله -سبحانه وتعالى- على أحد، فيمكن أن يخرجوا عن هذا الاستثناء بقدر ما يسلَّطون، بهذا المقدار الذي يتيحه الله -سبحانه وتعالى- ليضرب بهم أحداً هنا أو هناك.

{وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، يعني: مع بعض حبلٍ من الله من جانب، هو عبارة عن التسليط الإلهي، {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}: ما يمكن أن يحصلوا عليه من جانب الناس، لا يستطيعون أن يتحركوا بمفردهم من دون حماية من أحد، من دون مساندة من أحد، من دون دعمٍ من أحد، ولا يكفيهم أن يكونوا مدعومين من طرفٍ ما، وبحماية ورعاية من طرفٍ ما، من دون أن يحصل أيضاً التسليط الإلهي الذي يتيح لهم النجاح.

ونحن نجد في هذا الزمن، في هذا العصر، أنه حصل هذا: حبل من الله وحبل من الناس، الحبل من الناس: الدعم والرعاية والمساندة التي حظوا بها من جانب بريطانيا أيام احتلالها لفلسطين، ومن بعد وعد بلفور، وما قدمته لهم بريطانيا من رعاية وتمكين ومساندة، ومساندة على مستوى أوسع آنذاك، يعني: من العالم الغربي بشكلٍ عام، ثم من بعد بريطانيا قامت أمريكا بالدور بشكلٍ كبير، ولا يزال إلى جانبها الغرب إلى حدٍ ما كذلك.

ولكن المسألة الأخطر علينا نحن المسلمين هي قوله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}؛ لأنها تنبئ أنَّ الوضعية التي تمكَّن فيها هؤلاء من أن يتحركوا لضرب الأمة، واستهداف الأمة، وأن يبنوا لهم كياناً في قلب منطقة هي داخل هذه الأمة، هي وضعية خطيرة، هي وضعية تقصير، هي وضعية عصيان، هي وضعية تفريط، هي تدل على خللٍ كبيرٍ في واقع الأمة، لدرجة أنَّ يسلط الله عليها هذا العدو، لدرجة أنَّ يتمكن أولئك الذين ضرب الله عليهم الذلة من إذلال أبناء الأمة إلى حدٍ كبير، ألم يتمكنوا من إذلال الجيوش العربية؟ ألم يتمكنوا من إذلال أمة بأكملها آنذاك، ولا يزالون يذلون الكثير من أبناء الأمة إلى حد اليوم، ما عدا من يخرج عن هذه الوضعية السيئة، وهذه بحد ذاتها كافية في أن يلتفت المسلمون بجدية إلى بحث أسباب السخط الإلهي، الذي كانت من نتائجه هذا التسليط، أن يتاح لأشر عباد الله، لأسوأ خلق الله، أن يبنوا لهم كياناً، وأن يواجهوا هذه الأمة، وأن يذلوها على مدى عقود من الزمن، وأن يهددوها، وأن يقف الكثير من زعماء هذه الأمة في موقف الذلة أمامهم.

وصل الحال فعلاً إلى أن كان معظم زعماء هذه الأمة من ملوك وأمراء أذلاء أمام من قد ضربت عليهم الذلة، وأمام من قد ضربت عليهم المسكنة، والحال السائد لدى معظم الجهات الرسمية في العالم العربي هو هذه الذلة، وهم يعيشون حالة من اليأس والشعور بالضعف، والشعور بالذلة والضعة أمام العدو الإسرائيلي، بل يروِّجون أنه من المستحيل مواجهته، من المستحيل طرده، من المستحيل التخلص منه، وأنه أصبح حالة قائمة واقعية لا مناص منها إلَّا بالتعامل معها، والقبول بها، هكذا يروِّجون، أليست هذه حالة ذلة رهيبة جدًّا.

ونحن نقول: أنَّ هذه الآية المباركة هي كافية في أن يلتفت المسلمون بجدية إلى تصحيح وضعهم؛ لأنه وضعٌ خطير، وضعٌ يكون فيه سخطٌ من الله -سبحانه وتعالى-، ويكون من نتائجه هذا التسليط الإلهي، وضعٌ خطير، يستوجب التفاتة جادة لتصحيح هذا الوضع؛ لأن ثمرة الإسلام في هديه، في تعليماته، في توجيهاته، في برنامجه، هو يبني هذه الأمة لكي تكون أمةً عظيمةً، قويةً، عصيةً على أعدائها، منيعةً، ولكي يكون وضعها الداخلي واقعاً صحيحاً، وقائماً على أساس المبادئ والقيم الإلهية، قائماً على العدل، على الخير، ثم تؤدِّي دورها في العالم على أساس ذلك، تتحرك في الساحة العالمية على هذا الأساس، ولكن ما وصلت إليه الأمة، ولنتائج خطيرة جدًّا، ولتراكمات عبر الزمن، أوصلتها إلى وضعية من التفكك، وغياب المشروع، والضعف، يطمع أعداءها فيها، ويعطي فرصةً لأولئك الذين قد ضرب الله عليهم الذلة أن يتحركوا فيها، معنى ذلك: أنَّ الأمة فرَّطت وقصَّرت في جوانب مهمة من دينها، جوانب رئيسية من إسلامها، كانت كفيلةً ببناء واقعها ليكون واقعاً مختلفاً، لا يمثل فرصة مطمعة لأعدائها، وكذلك تحظى فيه بالتأييد الإلهي، والنصر من الله -سبحانه وتعالى-، فتكون في موقع أن تحظى بالتأييد الإلهي والنصر من الله، لا في موقع أن يسلِّط الله عليها شر خلقه، فهذا درسٌ مهمٌ جدًّا، يعطينا نظرةً عن منشأ المشكلة التي وقعت فيها هذه الأمة، والتي يجب عليها أن تسعى للخروج منها.

ثم عندما يتحدث القرآن الكريم عن أولئك الأعداء، فهو يبين لنا مستوى عدائهم، ويبين لنا أيضاً خطورتهم، فهم الأشد عداءً لنا كأمةٍ مسلمة، الأمة الإسلامية لها أعداء كثر، ولها أعداء متنوعون، ولكن الأشد منهم عداوة هم اليهود كما في القرآن الكريم، قال الله -جلَّ شأنه-: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة: من الآية82]، فقدَّمهم في المرتبة الأولى، ثم قال: {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: من الآية82]، فاليهود هم في المرتبة الأولى من حيث عدائهم الشديد للذين آمنوا، وهذا العداء ليس مجرد حالة نفسية فحسب، هذا العداء تحته برامج عملية، تحته مؤامرات، تحته خطط، تحته سياسات، تحته أنشطة واسعة وأعمال كثيرة يتحركون بها لاستهداف هذه الأمة، وهذا من أهم ما يجب أن نلتفت إليه، فهو أمر غير قابل للتجاهل، لا يجدي معه التجاهل، هم أصلاً أعداء يتحركون ابتداءً، ويعملون بكل ما يمكن أن يروا فيه ضُراً أو خطراً على هذه الأمة، قال الله -جلَّ شأنه- عن عدائهم الشديد: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}[آل عمران: من الآية118]، أنهم يودون كل ما فيه عنت لهذه الأمة، أنهم يرغبون ويحبون ويعملون على كل ما يمثل ضرراً على هذه الأمة، في كل مجال من مجالات هذه الحياة، فعندهم الدافع الكبير في أنفسهم، والرغبة الشديدة في أنفسهم لفعل كل ما يمكن أن يضر بهذه الأمة، هم ليسوا عدواً هادئاً، أو مشاعرهم باردة وهادئة، وقال عنهم: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[آل عمران: من الآية119]، هم إلى هذا المستوى الذي شبهه بهذه الحالة من شدة الغيظ، من شدة الحقد، فيتوفر عندهم الرغبة الشديدة والدافع الكبير للإضرار بهذه الأمة، والاستهداف لهذه الأمة، وفيهم الحقد الشديد على هذه الأمة الذي يصل إلى هذه الدرجة: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}، مما يعبر عنه من شدة حقد كبير على هذه الأمة.

قال عنهم: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، هم يستاؤون من أي حسنة تحصلون عليها، من أي نجاح في واقع حياتكم، من أي خيرٍ يتحقق لكم، كل حسنة، أي حسنة تسوؤهم، يستاؤون منها؛ لأنهم لا يريدون لكم ذلك، {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}[آل عمران: من الآية120]، فهم يفرحون بكل سيئة يمكن أن تنال هذه الأمة، أي شيء ينال هذه الأمة، أي سوء، أي شر، أي ضر، أي خطر، أي عناء، أي مصيبة تلحق بهذه الأمة، فهم يفرحون بذلك ويرتاحون لذلك، وهذا يعبر عن عداء شديد جدًّا.

قال عنهم أيضاً: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} في المرتبة الأولى {وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: من الآية105]، هم إلى هذا المستوى من العداء لهذه الأمة، لا يريدون لها أي خيرٍ حتى من الله، ولا يريدون لها أي خيرٍ في واقع حياتها، ولا أن تنهض في واقع حياتها على أي مستوى: حتى على المستوى الاقتصادي، على المستوى العسكري… على كل المستويات، أي خيرٍ، {مِنْ خَيْرٍ} أي خيرٍ مهما كان، هم إلى هذا المستوى من العداء لهذه الأمة، والحقد على هذه الأمة، وأيضاً على مستوى التوجهات العملية الناتجة عن هذا الحقد، الناتجة عن هذه الحالة النفسية تجاه هذه الأمة.

ثم يتحدث لنا أيضاً فيما يتحدث عنه: عن استراتيجيتهم، ووسائلهم التي يعتمدون عليها في استهدافهم للأمة، ونجد أن كثيراً من النصوص تبين لنا كيف أنهم يسعون إلى إفقاد هذه الأمة كل عوامل القوة والنصر، ويسعون لإضعافها حتى يصلوا بها إلى مستوى الانهيار التام، ويتمكنون من السيطرة عليها، مجمل النصوص القرآنية هي تقدم لنا هذا التصور عنهم: أنهم يركزون على هذه الاستراتيجية.

هم الله -سبحانه وتعالى- قد ضرب عليهم الذلة، وهم يخافون من أن تمتلك الأمة عوامل القوة والنصر فتضربهم؛ فلذلك هم يعملون بشكلٍ واسع وبأساليب كثيرة لإضعاف هذه الأمة، وللوصول بها إلى حالة الانهيار، ولسلبها كل عناصر القوة، والحيلولة بينها وبين أن تمتلك هذه العناصر، أو تسعى إلى تنميتها في واقعها، وهذه استراتيجية خطيرة، وهم أيضاً يستغلون كل نقاط الضعف في داخل الأمة، ويوظفونها إلى أقصى حد في استهدافهم لهذه الأمة.

لكي يفقدوا الأمة كل عوامل القوة والنصر، هم يركزون ابتداءً- في المقدمة- على الجوانب المعنوية، وعلى الأسس المهمة التي تضمن لهذه الأمة أن تستعيد قوتها، وأن تبني نفسها من جديد، وأن تصل إلى مستوى مواجهة هذا التحدي وهذا الخطر، ولذلك يركزون على التضليل والإفساد والتطويع لهذه الأمة؛ من أجل تحقيق هذا الهدف: ليفصلوها عن الله -سبحانه وتعالى-، ولهذا يقول الله -سبحانه وتعالى- عنهم في القرآن الكريم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء: من الآية44]، ويقول عنهم: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}[آل عمران: من الآية69]، {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}[البقرة: من الآية109]، {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء: من الآية44]، لا يريدون لهذه الأمة أن تحمل أي رؤية صحيحة، أي رؤية هادية تنطلق على أساسها في أي مجالٍ من المجالات، فهم يريدون لهذه الأمة الضياع، ويريدون أن تكون أي رؤى تعتمد عليها تكون رؤى خاطئة، رؤى ضالة، رؤى تضيّع هذه الأمة، فهم يتجهون إلى استهداف هذه الأمة على مستوى الرؤية: ألَّا تمتلك الرؤية الصحيحة، معناه: هناك استهداف واسع من جانبهم على المستوى الفكري، على المستوى الثقافي، على مستوى الرؤية، على مستوى الأفكار والدراسات، على مستوى السياسات، على مستوى صناعة الرأي العام، هناك نشاط واسع لهم يركز على هذه الجوانب: كيف يعملون على إضلال الأمة، كيف تحمل مفاهيم خاطئة، ثقافات خاطئة، أفكار خاطئة؛ لأن الإنسان أول عنصر يحتاج إليه لكي يتحرك بشكل صحيح: رؤية صحيحة، إذا لم يمتلك الرؤية الصحيحة وتحرك بناءً على رؤية خاطئة ومغلوطة؛ لن يصل إلى النتيجة الصحيحة، فهم يسعون إلى أن تكون المفاهيم، الثقافات، الرؤى، الأفكار، لدى أبناء هذه الأمة، خاطئة وغير صحيحة، حتى على مستوى عقائدها الدينية، على مستوى المفاهيم الدينية، هم بذلوا جهداً كبيراً، ومن واقع ما يمتلكونه من خبرة كبيرة في التزييف والتحريف للحقائق، وقد حرفوا رسالات إلهية سابقة، رسالة الله إلى موسى، ورسالته إلى عيسى، كان اليهود وراء تحريفها، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وحرفوا المفاهيم الدينية، وحرفوها تحريفاً رهيباً، ثم اتجهوا للإسلام في جانبه العقائدي، في مفاهيمه الدينية لتحريفها إلى حدٍ كبير، وهذا كان له تأثير سلبي في واقع المسلمين، أفقدهم الثمرة الحقيقية للإسلام في رؤيته الصحيحة، في مفاهيمه الصحيحة، في عقائده الصحيحة.

وأكثر من ذلك يمتدون إلى بقية المجالات، لا يريدون للأمة أن تكون لها رؤية صحيحة؛ لأن الإسلام قدَّم منهجية صحيحة تبني الأمة في كل مجالات حياتها، وتجعل منها أمةً قوية، حتى في واقعها الاقتصادي، حتى في واقعها العسكري… حتى في كل مجالات حياتها.

فهم يريدون ويعملون بناءً على هذه الإرادة إلى أن تضل الأمة؛ ولهذا يتسللون إلى مناهجها الدراسية، يتسللون إلى منابرها الإعلامية ووسائلها الإعلامية، يتسللون ويخترقون خطابها الديني، ويخترقون أيضاً واقعها السياسي، ثم يحرصون على أن تكون التوجهات والسياسات والمواقف محرفةً، وأن يكون حتى الرأي العام السائد في ذهنية الأمة أن يكون كذلك ضالاً وضائعاً وخاطئاً.

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}[البقرة: من الآية109]، يعملون على مسخ هذه الأمة في هويتها، وأن يفقدوها إيمانها، إيمانها بالله -سبحانه وتعالى- بكل ما يمثله من أهمية في العلاقة مع الله، والحصول على تأييده، ونصره، ومعونته، ورعايته، وبكل ما يمثله الجانب الإيماني من أهمية على مستوى القوة المعنوية، الدافع المعنوي، القيمة الأخلاقية والإنسانية، عناصر النجاح التي تبنى على تلك القيم وتلك الأخلاق في الواقع العملي، والثمرة التي يمكن أن تتحقق بناءً على ذلك، فهم يسعون إلى ضرب الأمة؛ لأنهم يدركون أن هذا من أهم عوامل القوة لهذه الأمة.

يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[المائدة: من الآية64]، {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}، (يَسْعَوْنَ) فهم يعملون بكل جد، وبكل نشاط، وبوسائل وبأساليب كثيرة إلى نشر الفساد في كل مجالات الحياة، (فَسَادًا) صيغة التنكير بكل ما تعنيه في كل مجالات الحياة: الفساد في الواقع الاقتصادي، الواقع الأخلاقي للأمة، والواقع الاجتماعي للأمة، والواقع السياسي للأمة، واحدة من الاستراتيجيات الأساسية التي يشتغلون عليها بوسائل وأساليب كثيرة، ويتجهون إلى اختراق الأمة بها.

يقول الله -سبحانه وتعالى- أيضاً في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران: الآية100]، العجيب في هذه الآية المباركة أنه يتحدث عن الطاعة، وعن خطورة الطاعة لهم، ومعنى ذلك: أنهم ينجحون- إلى حدٍ كبير- في تطويع الأمة، يعني: يسعون إلى أن يحولوا الأمة إلى مطيعة لهم، تتفاعل مع رؤاهم، مع سياساتهم، مع مخططاتهم، مع مؤامراتهم، مع توجيهاتهم، تتلقى منهم الأوامر، تتفاعل مع ما يقدمونه، وتسعى لتنفذ ما يقدمونه، وهذه حالة رهيبة جدًّا، حالة خطيرة، وتدل على خطورتهم البالغة على هذه الأمة، أنهم يمكن أن يصلوا إلى هذا المستوى من النجاح في أن يحولوا هذه الأمة إلى مطيعة لهم، أو يحولوا كثيراً من أبناء الأمة إلى مطيعين لهم، يتقبلون منهم الأوامر، التوجيهات، الخطط، المؤامرات، يتقبلون سياساتهم، يتحركون وفق ما يرسمونه هم، ولديهم وسائل كثيرة لتحقيق هذا الهدف، لديهم الكثير من الأساليب والوسائل التي تساعدهم أحياناً إلى الوصول حتى إلى مواقع القرار في هذه الأمة؛ فيحولوا رئيسياً معيناً، أو ملكاً معيناً، أو أميراً معيناً، إلى مطيع لهم يسعى لتنفيذ مؤامراتهم وخططهم بكل جدية، ويبذل من أجل ذلك المال، ويتخذ كل المواقف في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم.

وهم في الآية المباركة كما ذكر عنهم يسعون من خلال هذا التطويع إلى مسخ هذه الأمة، وفصلها عن دينها في مفاهيمه الحقيقية، {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، حالة خطيرة جدًّا؛ لأن سعيهم إلى مسخ هذه الأمة لإفقادها التأييد الإلهي من جانب، وما يمثله الإيمان من عامل ودافع معنوي هائل جدًّا، وطاقة معنوية قوية، تحتاج إليها الأمة لتكون في مستوى مواجهة هذا الخطر، والتماسك في مواجهة هذا التحدي، وما يمثله أيضاً من عوامل للنجاح في واقع الحياة.

حذر من التولي لهم، فقال -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة: الآية51]؛ لأنهم يسعون أيضاً إلى نشر الولاء لهم في واقع الأمة، وهذا له تأثير سلبي خطير في واقع الأمة؛ لأنه يحول الذين يتجهون بالموالاة لهم إلى متعاونين معهم؛ لتنفيذ مخططاتهم ومؤامراتهم من داخل الأمة.

هذا بعضٌ مما عرضه القرآن الكريم ويبين خطورتهم، وأنهم كما الشيطان الذي سعى في عدائه لبني آدم للتركيز على أن يضلهم؛ باعتبار هذا أكبر ضربة قاضية لهم، إذاً عندما نمتلك الرؤية الصحيحة عن هذا العدو، عن مستوى عدائه، عن خطورته، عن وسائله وأساليبه الواسعة، ندرك أن الجزء العسكري، والجانب العسكري هو جزءٌ من المعركة معهم، جزءٌ لا بدَّ منه، ولا بدَّ من الاهتمام به، ولكنه يبقى جزءاً من هذه المعركة، وأن هذه المعركة واسعة، تتجه إلى كل مجالات الحياة، وأن نشاط العدو فيها يتعدى موقعه الجغرافي، يتعدى الموقع الجغرافي الذي قد احتله، فهو يمتد إلى كل الأمة، هذا الخطر في سعي العدو إلى إضلال الأمة، وفي استغلاله لكل ضلالٍ موجودٍ فيها من قبل، وسعيه لإفساد الأمة، ولاستغلاله لكل فسادٍ هو موجودٌ فيها أو يتواجد فيها، ولسعيه لرد الأمة عن مبادئها وقيمها الدينية المهمة، التي تصلها بالله، وتصلها برعاية الله، وتصلها بتأييد الله -سبحانه وتعالى-، وأيضاً تفيدها في واقع هذه الحياة، ويترتب عليها نتائج إيجابية، تجعل منها أمةً قويةً ومنعةً وحصينةً، وأمةً ناجحةً وفاعلة، هذا الخطر من جانب العدو هو يمتد إلى الأمة بكلها، إلى كل الشعوب، إلى كل البلدان، هو يخوض هذه المعركة بهذه الوسائل، ويمتد شره ونشاطه على مستوى أوسع، حتى اللوبي الصهيوني المتواجد مثلاً في أمريكا، أو اللوبي الصهيوني المتواجد في أوروبا هو ينشط على مستوى واسع، ولهذا يأتي الحديث في القرآن الكريم عنهم على نحوٍ أوسع، {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ}؛ لأن اللوبي اليهودي المتواجد في كل بقعةٍ من بقاع العالم، على مستوى أوروبا، أو أمريكا، هو ينشط على مستوى واسع، اليهود الصهاينة لديهم مشروع عالمي، هم يتحركون على مستوى واسع، وليسوا فقط يتجهون إلى نقطة وزاوية محدودة كل اهتماماتهم تنحصر عليها، وكل أعمالهم تتركز فيها. لا، إنما يتجهون هذا التوجه الواسع والعام.

وهذا يعطينا رؤية أيضاً عن طبيعة الصراع معهم، ومن أوجب ما يجب أن نستوعبه كأمةٍ مسلمة هو طبيعة الصراع مع أهل الكتاب، طبيعة الصراع مع اليهود الصهاينة، وأن المسألة لا تنحصر على الجانب العسكري، ولا بدَّ فيها من الجانب العسكري، هو جزءٌ أساسيٌ من هذه المعركة، وجزءٌ رئيسيٌ في هذه المعركة، ولكن حتى هو يرتبط بمقومات وعناصر لا بدَّ منها؛ لكي يكون فاعلاً، ولكي يكون ناجحاً، كما تحدثنا في المقارنة بين الأداء العسكري لحزب الله، وكيف كان ناجحاً وفعالاً بالرغم من الإمكانيات على مستوى العدد والعدة المتواضعة، في المقارنة بما امتلكته جيوش عربية خاضت معركتها العسكرية بدون تلك المقومات، اللازمة للنجاح وفشلت.

هنا نعود إلى القرآن الكريم أيضاً في حديثه عن الرؤية التي يجب أن تعتمد عليها الأمة لمواجهتهم؛ لأن القرآن الكريم قدم الهداية الكافية عن ذلك؛ لاحظوا بعد قوله -جلَّ شأنه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران: الآية100]، خطر كبير جدًّا، أكبر ضربة يمكن أن توجه لهذه الأمة عندما تطوَّع لهم، وتصبح مطيعةً لهم، ثم يتمكنون من خلال ذلك من إبعادها عن مبادئها الدينية العظيمة، وعن قيمها الدينية المهمة، يقول الله -جلَّ شأنه- بعد ذلك: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران: الآية101]، نجد أن الله -سبحانه وتعالى- قد هدانا هنا إلى ركيزتين أساسيتين، لا بدَّ منهما كمتطلبات رئيسية لخوض هذا الصراع، ولخوض هذه المعركة:

أولها: عندما قال -جلَّ شأنه-: {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}، ليقدم لنا أنه لا بدَّ لنا من العودة إلى القرآن الكريم، وإلى آياته المباركة التي فيها ما يحصننا ويحمينا من هذا التأثير الخطير، الذي قد يصل بالأمة إلى مستوى التطويع، وأن تكون مطيعةً لهم.

والركيزة الأخرى: يقول: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}، كقيادة هادية بهذا الكتاب، بهذه الآيات المباركة، على المستوى الإرشادي وعلى المستوى العملي وهو يتحرك بالأمة في كل مجالات الحياة على أساس هذا الهدى المبارك، فنجد أنه هدى إلى هاتين الركيزتين كأولى متطلبات خوض هذا الصراع، والدخول في هذه المعركة، لا بدَّ لنا في البداية من منهج نعتمد عليه، نتحرك على ضوئه، نكتسب منه الرؤية اللازمة لمواجهة هذا التهديد وهذا الخطر، وهذا المنهج يتمثل في القرآن الكريم، ولا بدَّ من قيادة، في هذه المعركة نحتاج إلى قيادة، لا يمكن أن نخوض معركة بدون قيادة، أن نواجه تحدياً وخطراً بدون قيادة، لا بدَّ من قيادةٍ هاديةٍ بهذا الكتاب، تهدينا بالإرشاد، وتهدينا على المستوى العملي وهي تتحرك بنا وتنطلق بنا على ضوء هدي هذا الكتاب، وهذه الآيات المباركة، ولذلك قال -جلَّ شأنه-: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}، كقيادة دينية عظيمة، مرتبطة بهذا الكتاب، مقترنة بهذه الآيات، وتهدي بها.

هاتان الركيزتان والمقومتان الأساسيتان لا بدَّ منهما في خوض هذه المعركة، إذا اتجهت الأمة بدون هاتين الركيزتين يمكن أن تفشل، يمكن أن تخسر، لا يمكن أن تربح هذه المعركة.

يقول الله -جلَّ شأنه- أيضاً: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، ليرشد وليدل على ضرورة الاعتصام بالله، بما يفيده من التجاء إلى الله -سبحانه وتعالى- من موقع الوعي والإدراك لمستوى هذا الخطر الكبير الذي يتهددنا، وهذا الالتجاء هو التجاءٌ عملي، التجاءٌ إلى الله -سبحانه وتعالى- بالسير على أساس هديه، على أساس تعليماته، ففي هذه المعركة لا بدَّ من الارتباط بالله -سبحانه وتعالى-، لا بدَّ من العودة إلى الله، لا بدَّ من الثقة بالله، لا بدَّ من التوكل على الله، لا بدَّ من الاعتماد على الله، ولا بدَّ من أن يكون هذا الالتجاء ليس التجاء الذين ينكفئون على الدعاء فحسب، ويقولون: [سندعو الله أن يقضي على إسرائيل]، هؤلاء الذين يتجهون اتجاه بني إسرائيل الذين قالوا لموسى -عليه السلام-: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة: من الآية24]، إحالة هذه المعركة إلى الله، الله هو الغني، هو القاهر العزيز، هو -جلَّ شأنه- من يقدر على أن يسلبهم حياتهم في لحظةٍ واحدة، هم تحت سيطرته وقهره وسلطانه، لكنه لا بدَّ من الالتجاء العملي الحركي، الذي تتحرك فيه الأمة في كل المسارات التي يرشد القرآن الكريم إلى التحرك فيها، ولهذا قال الله -جلَّ شأنه-: {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ لأن هذا الالتجاء مبنيٌ على أساس التحرك، ولهذا تأتي الهداية، التحرك العملي، {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

يرشد بعد ذلك إلى أهمية التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}[آل عمران: من الآية102]، وفي هذا السياق حصراً، وفي هذا الموضع تحديداً من القرآن الكريم يأتي الأمر بالتقوى بأعلى درجات التقوى؛ ليحذر بأشد عبارات التحذير من التقصير والتفريط في هذه المسؤولية؛ لأنه عندما يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، ولم يأت الأمر في القرآن الكريم بالتقوى بهذه الصيغة إلا في هذا الموضع، ليبين هنا أن الأمة في أحوج ما تحتاجه إلى أن تكون على أعلى درجة من التقوى، ومن الحذر من التفريط في هذه المسؤولية، والتفريط في مواجهة هذا الخطر الذي يهددها في دينها، في مبادئها، في أخلاقها، في قيمها، وبالتالي في حياتها وفي دنياها، يحتاج إلى التحلي بأعلى درجات المسؤولية والانتباه والاهتمام، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: من الآية102]، هذا خطر يهددكم في مبادئكم، في إيمانكم، قضية خطيرة للغاية، يبين لنا مستوى الخطورة الرهيبة جدًّا.

ثم يرشد إلى الاعتصام بحبل الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، فيما يفيده أن تكون الانطلاقة لمن يتحركون على هذا الأساس أن تكون انطلاقةً جماعية، تحركاً جماعياً على أساس منهجٍ واحد ورؤيةٍ واحدة (حبل الله)، سماه حبله، على أساس أن تكون الكلمة مجتمعةً على منهجٍ واحد ورؤيةٍ واحدة، هي الرؤية التي قدَّمها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم، وانطلاقةً عمليةً جماعيةً، وليست فردية، وليست مشتتة، بل تتجه كل الجهود على أساس هذا التحرك الجماعي كمسؤوليةٍ جماعية، ويحذر من التفرق: {وَلَا تَفَرَّقُوا}؛ لأن التفرق من أهم ما يستفيده العدو، لا نجاح لأي مشروع يدخل فيه التفرق، لمواجهة هذا الخطر الكبير.

ثم يذكر بنعمة -سبحانه وتعالى- بالألفة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، ليرشد إلى أهمية الألفة كعامل مهم لا بدَّ منها؛ لكي يتحقق هذا التحرك الجماعي، وهذه الانطلاقة الجماعية، {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 103-104]؛ لكي يؤكد أنه لا بدَّ أن تتجه الأمة هذا التوجه الذي يصحح وضعيتها من الداخل، ويبنيها بناءً صحيحاً في الدعوة إلى الخير، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بالمعروف بمفهومه الواسع الذي يأتي إلى كل مجالات الحياة فيصلحها، والنهي عن المنكر بمفهومة الواسع الذي يأتي إلى كل المجالات فيصححها، ويزيح عنها كل مظاهر الخلل التي يستغلها الأعداء، والتي تمثل نقاط ضعفٍ لخدمة الأعداء، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

ثم يحذر من جديد من التفرق والاختلاف: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: الآية105]، هكذا نجد أيضاً خطورة التفرق والاختلاف على الأمة في واقعها، وما يمكن أن يمثله من فرصة كبيرة يستغله أعداؤها من الداخل، ويمثل إعاقة حقيقية لنجاح الأمة في مواجهة هذا الخطر.

في سورة المائدة بعد أن حذَّر من الموالاة لهم، واعتبرها جرماً من أكبر الجرائم، وقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، حذَّر أيضاً من الموالاة لهم، وكشف حقيقة من يتجه هذا التوجه المنحرف، قال -جلَّ شأنه-: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}[المائدة: من الآية52]، فالذين ينحرفون ويتجهون للمسارعة فيهم والموالاة لهم، مهما كانت مبرراتهم الواقع الحقيقي لهم أن في قلوبهم مرضا، حالة الانحراف هي في داخلهم؛ فلذلك اتجهوا هذا التوجه المخالف لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جلَّ شأنه- فيما بعد هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة: 54-56].

يقدم في هذه الآيات المباركة كذلك الرؤية العملية التي هي رؤية تمثِّل نجاحاً للأمة، ومضمونة النجاح؛ لأنها تحظى بالدعم من الله -سبحانه وتعالى- والتأييد من الله -سبحانه وتعالى-، لا بدَّ من هذه المواصفات القرآنية، التي قدَّمها القرآن الكريم، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ}، وهذا وعد إلهي، وعد من الله أنه سيأتي بهؤلاء القوم؛ إنما كيف يسعى الإنسان ليكون منهم، ليكونوا هم الذين يواجهون هذا الخطر وهذا العدو من داخل الأمة، بكل نجاح، بكل اقتدار، وبنصرٍ وتأييدٍ من الله -سبحانه وتعالى-.

يقدم هذه المواصفات: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، عن طبيعة علاقتهم بالله -سبحانه وتعالى-، {ذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، في واقعهم الداخلي، في إخوتهم فيما بينهم من التعامل، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، فهم على العدو أعزة، أقوياء، جريئين، ويمتلكون العزة الإيمانية، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وهم يتحركون وينهضون بمسؤولية الجهاد في سبيل الله بكل ما تشمله من مجالات: على المستوى العسكري، على المستوى الأمني، على المستوى الاقتصادي، على المستوى السياسي، على المستوى الإعلامي… كل ميدان من ميادين هذه الحياة، وكل مجال من مجالات هذه الحياة ينطلقون فيه استجابةً لله -سبحانه وتعالى-، ووفق الرؤية التي رسمها الله -سبحانه وتعالى-.

يقول عنهم: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}؛ لأن الله يعلم كم سيكون الإعلام في خدمة اليهود، كم سيشتغل الإعلام وكل وسائل اللوم تحت كل العناوين، حتى العنوان الديني، من كل من يعملون لخدمة اليهود، ولكن هؤلاء القوم الذين يتحركون بهذه الفاعلية هم على هذا المستوى الراقي، فلا يكترثون ولا يبالون بلوم اللائمين، {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}.

ثم يؤكِّد على قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، فيما يحصِّن الأمة من التولي لليهود والنصارى بالإيمان بولاية الله -سبحانه وتعالى-، وما يندرج تحتها وامتداداتها الممتدة إلى الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، إلى الإمام عليٍ -عليه السلام-، ثم يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}، لتكون النتيجة الحتمية لهذا التولي العملي الذي يدخل تحته الكثير من التفاصيل العملية، والالتزامات العملية، لتكون النتيجة الحتمية قوله -جلَّ شأنه-: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.

فنجد في الرؤية القرآنية عرضاً مهماً وواضحاً، يبين لنا ما هي عناصر النجاح التي نحتاج إليها في مواجهة هذا الخطر وهذا التحدي، ونجدها تتجه بشكلٍ رئيسي إلى داخل الأمة: يأتي التحذير من التولي إلى داخل الأمة، يأتي الحديث الذي يعبئ الأمة بالعداء لأولئك باعتبارهم أعداء، يبين كل جوانب خطورتهم، ليتبين لنا أنَّ طبيعة المعركة معهم ليست معركةً محدودة، ولا تقتصر على مجالٍ دون مجال، وأنها تدخل إلى كل المجالات، وأنه خطرٌ يمتد إلى الناس إلى واقعهم، وقد وصل بالفعل، وصل من خلال النشاط التضليلي الهائل الذي يأتي عبر كثيرٍ من الوسائل إلى مختلف بلدان عالمنا الإسلامي، الذي يستهدف الرأي، يستهدف الفكر، يستهدف الأخلاق، يستهدف السلوك، يستهدف الأمة؛ فيفقدها إحساسها بالمسؤولية، يعمل على إفساد النفوس، وضرب زكاء النفوس.

فالرؤية القرآنية هي تتجه بشكلٍ واضحٍ وبشكلٍ رئيسي إلى تحصين الأمة من الداخل، وبنائها من الداخل، وتربط ما بين الموقف كموقف واضح وصريح وعلني، وفيه خطوات عملية، وتحرك جاد، وما بين كذلك عملية البناء للأمة في كل مجالات الحياة، وما بين أيضاً أن تتحرك الأمة في مسيرةٍ عملية لتصحيح وضعها من الداخل، وأن تكون في حركتها هذه كلها منطلقةً من الركيزتين الأساسيتين: {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}[آل عمران: من الآية101]، المنهج الإلهي العظيم، والقيادة الهادية بهذا الكتاب، التي تتحرك بنا على ضوء منهج الله -سبحانه وتعالى- وهديه الواسع.

من هنا ندرك أنَّ المعركة هذه تمتد إلى كل مجالات الحياة، وأنَّ علينا أن نجعل من هذه المعركة، أو من هذا التحدي ومن هذا الخطر حافزاً للانطلاقة في كل واقع حياتنا؛ لنبني واقعنا في كله على أساس أننا نخوض هذه المعركة، أننا أصحاب قضية، أننا نواجه هذا التحدي، أن نبني واقعنا الإعلامي على هذا الأساس، ولاحظوا كم يمكن أن يختلف الجانب الإعلامي لو بني على هذا الأساس: أننا نخوض معركة، أنَّ علينا أن نحصن واقعنا الإعلامي من الاختراق، ثم أن نفعِّله أيضاً في هذه المعركة؛ ليؤدي الدور المطلوب منه على المستوى التوعوي للأمة، وعلى المستوى التعبوي للأمة.

ثم عندما نأتي إلى الجانب السياسي، عندما نأتي إلى الجانب الاقتصادي، أن نبني اقتصادنا لنكون أمةً منتجة، ومقتدرة، وممتلكة للاكتفاء الذاتي، وأمة تبني اقتصادها داخلياً، ولا تحوِّل نفسها إلى سوقٍ استهلاكي لصالح أعدائها، على المستوى العسكري: كيف نتجه على المستوى المعنوي والإيماني، وعلى مستوى امتلاك القدرات والخبرات اللازمة لخوض هذه المعركة، وكيف يكون الموقف من العدو موقفاً واضحاً.

يتضح لنا أيضاً خطورة الدور السلبي للمنافقين في داخل الأمة الذين يعملون على تعميم حالة الولاء للعدو، وعلى الشغل في هذا الاتجاه تحت أساليب كثيرة، وبعناوين كثيرة، ظهر منها مؤخراً عنوان التطبيع مع العدو الإسرائيلي، الذي يشتغلون عليه.

هم عندما يحاربون كل صوتٍ يناهض الهيمنة الأمريكية، ويعادي إسرائيل، هم يعملون لخدمة العدو الإسرائيلي، هم يشتغلون لأن تصبح الحالة السائدة في الأمة هي حالة الموالاة لهذا العدو.

على كلٍ نحن قدَّمنا عناوين مختصرة؛ لأن هذا الموضوع هو موضوع كبير، موضوع يتعلق بمسيرةٍ عملية، التثقيف فيها يستمر، التوعية فيها تستمر، الرؤية فيها رؤيةٌ متكاملة، وتتجه إلى كل واقعنا في هذه الحياة، في كل مجالاتها: على المستوى الثقافي، على المستوى العسكري، على المستوى الاقتصادي، على المستوى السياسي، على المستوى الإعلامي، رؤية متكاملة، لا يتسع الحديث للكلام بشكلٍ تفصيليٍ كاملٍ عنها، ولكن هذه هي الملامح العامة لهذه الرؤية القرآنية التي هي مستفادةٌ من هدى الله -سبحانه وتعالى-، ولا بدَّ منها لخوض هذا الصراع باقتدار وبكفاءة عالية.

ولاحظوا عندما بدأ التحرك على أساس هذه الرؤية القرآنية، على مستوى واقعنا مثلاً في اليمن، كيف كان انزعاجهم الأمريكيين، وكيف كان انزعاج الإسرائيليين، اليوم الدور الأمريكي بارزٌ وواضحٌ ومكشوف في تبني المعركة على شعبنا اليمني، والانزعاج الإسرائيلي، والإسهام الإسرائيلي في المعركة في العدوان على شعبنا اليمني، هو أيضاً بارزٌ وواضحٌ ومعلن، الإسرائيلي يعلن أنَّ من مصلحته المباشرة أن تتمكن قوى العدوان من ضربنا في اليمن، ومن السيطرة على هذا البلد، وأنَّ ذلك يمثل خدمة لإسرائيل، ويتحدث عنا كأعداء، ويتحدث عن مخاوفه من جانبنا في هذا البلد كأمة لها هذا التوجه، تنطلق من خلال هذه الرؤية، لها هذا الموقف الصريح والمعلن والواضح والجاد والصادق.

ولاحظوا أيضاً الإيجابية الكبيرة والفاعلية الملموسة لأداء حزب الله في لبنان، لأداء المقاومة الإسلامية في غزة، ولأداء أحرار الأمة، ونجد أيضاً مدى خوف العدو من إيران (الجمهورية الإسلامية في إيران)؛ لانطلاقتها الإيمانية، وموقفها الواضح والمعلن.

نحن في آخر هذه الكلمة نؤكِّد- ما كررناه في كلمتنا أيضاً الكلمة الأخيرة التي أتت ضمن كلمات لقادة محور المقاومة- موقفنا الثابت والراسخ والمبدئي، والتزامنا الديني والأخلاقي في نصرة الشعب الفلسطيني، في الموقف من العدو الإسرائيلي بما يشكِّله من خطورة على الأمة بكلها، في تمسكنا بهذا الحق الذي هو حقٌ للأمة بكلها في مقدساتها في فلسطين، وأيضاً نؤكِّد على موقفنا المستعد دائماً لكل الخيارات وبسقفٍ عالٍ في مواجهة العدو الإسرائيلي في أي أحداثٍ مستقبلية.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم، لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛