النباء اليقين

صنعاء انتزعت النصر من فم المستحيل.. و الكلاشنكوف هزم مدفع الدبابة

الثورة /إبراهيم الوادعي


دخلت معادلة الميدان اليمني واقعا جديدا بعد عملية “البنيان المرصوص” العملية الواسعة التي جاءت بعد أقل من نصف عام على عملية “نصر من الله” التي أكدت أنها لم تكن عملية معزولة أو نجحت بفعل عوامل الجغرافيا في وادي آل أبو جباره بكتاف حيث حصر الآلاف من ما يسمى “لواء الفتح” في مجرى الوادي.


فعملية “البنيان المرصوص” وعملية “فأمكن منهم” في الجوف تأكيد على أن صنعاء تغادر مربع الصمود والدفاع إلى الصمود والهجوم واستعادة الأرض من يد التحالف ، وبشكل اذهل المتابعين للشأن اليمني حتى قال احدهم إن العلوم العسكرية عاجزة عن تفسير ما حدث في نهم بظرف خمسة أيام فقط .


ما خسرته صنعاء على مدى خمس سنين باتت تستعيده في أيام وساعات ، وتجهز على ألوية بعدتها وعديدها في لحظات مقارنة بالوقت الذي استغرقته في بنائها .


لقد أكدت عملية “البنيان المرصوص” والتي جرت في ثلاث محافظات هي صنعاء ومأرب والجوف أن عملية “نصر من الله” المفاجئة في تنفيذها دقة وسيطرة ونتائج قاربت المعجزات – بحسب توصيف قائد عسكري إقليمي كبير- أواخر العام الماضي ، وأسقطت من خلالها صنعاء مسارا سعوديا خطيرا في صعدة ، وحررت 500 كيلومتر من الأراضي وأسرت ما يزيد عن 2700 مرتزق ، وانهار فيها لواء الفتح العقائدي تماما ، إنها لم تكن حالة فردية وإنما بداية لمسار اعلن عن نفسه بقوة مطلع 2020م في عملية “البنيان المرصوص” والتي انتزعت من الأرض خمسة أضعاف ما حررته عملية “نصر من الله” وفي ضعف المدة الزمنية فقط لعملية “نصر من الله”، والقضاء على أهم إنجازات التحالف المعادي على مدى 5 سنوات وأهم أوراقه التفاوضية .


ثمة أسباب منظورة للتطور الحاصل في ميدان المعركة وأخرى لم تخرج للإعلام بعد ، فالقصة لا تزال ناقصة فيما يعرضه الإعلام ، لدواع حربية.


القدرات الاستراتيجية


في العامين 2018 و2019م نمت القدرات التسليحية الاستراتيجية اليمنية بشكل مذهل في جانب القوة الصاروخية وخاصة الصواريخ الذكية والباليستية والطيران المسير بأجياله المتعددة لأغراض القصف والاستطلاع وإدارة المعركة .
لكن في المقابل لا يزال تحالف العدوان يتحفظ على أسلحة في هذا الاطار كما ونوعا ، وما لدى المدافعين لا يقاس بما يتوافر عليه التحالف من سلاح وتكنولوجيا يضاف إلهيا طيران حربي وأقمار اصطناعية تراقب الأراضي اليمنية على مدار الساعة.


بناء الفرد
لم تكن القوة الصاروخية أو الطيران المسيَّر هما العامل الأساسي ، وتطورهما هو الفاعل الأساسي في تغيير معادلة الميدان ، بقدر ما كانا عاملين مساعدين ورادعين يسندان السلاح الأساسي الذي دخل الميدان وقلب معادلة السنين في ظرف أيام.
بالعودة إلى أحداث عدن في السنة الأولى للعدوان على اليمن ، أعلن السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي القائد الأعلى للمواجهة اليمنية التاريخية مع قوى العدوان ، أن تقييما قد فتح لمعرفة أسباب التراجع ، بعد هجوم للتحالف اتسم بالإفراط في القوة العسكرية وكان – بنظر خبراء الأرض العسكريين- هجوماً يكفي لاحتلال اليمن وليس مدينة عدن ، وما حدث بعد ذلك كان انسحابا نفذه الجيش واللجان لإعادة إدارة دفة المعركة من موقع صلب ، وكان قرارا صائبا بعد ما حدث في عدن 2015م.
وفيما كان التقييم يجري وقعت أحداث نهم فبراير 2016م ، واختراق جديد نفذته قوى العدوان ليصبح الحدثان المختلفان في عناصر الجغرافيا وتكتيكات الهجوم والاختراق أساسا لاستخلاص العبر التي حدثت فيهما بعد سقوط عدن .
ويذكر مصدر مطلع أن السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي أشرف، وعلى مدى ستة اشهر من العمل المكثف، على وضع أسس المعالجات لأسباب الانتكاسات ، وأعطى صمود ميدي لسنوات نموذجا للنجاح في ظروف صعبة بكثير .
بحسب المصدر واسع الاطلاع فإن القوات التي حوصرت في عدن كان بمقدورها الصمود لسنوات بما تمتلكه من عتاد وعديد مقارنة بميدي واليوم الدريهمي المحاصرة تقدم نموذجا آخر .
تشير أهم عناصر التقييم إلى أن الروح الإيمانية والتخطيط الجيد هو ما شكل الفارق بين ميدي وعدن مقرونا بحسن التدريب والتكيف مع مختلف ظروف القتال بالنسبة إلى الأفراد ولا يجب أن يكون ذلك منحصرا على القادة بقدر ما هو مطلوب في صفات القائد ، لكن توافره لدى الفرد يجعل من النجاح ممكنا في الظروف الصعبة وما قد يرى مستحيلا بحسب بنود التقييم.


الصمود والبناء
خلصت صنعاء في قراءة إخفاقات أحداث نهم وعدن ونجاحات ميدي إلى أن بناء الفرد إيمانيا وعسكريا ينبغي أن يصبح مسارا رئيسيا للتحول بالتزامن مع مسارات تطوير الأسلحة الاستراتيجية .
اختارت صنعاء خلال ثلاثة أعوام ونصف أن تتخذ وضع الدفاع والاحتفاظ بالأرض ما أمكن ذلك ، حتى يكتمل مسار التحول الذي لا يمكن أن يتم في ليلة وضحاها بالنسبة إلى المسارين التسليحي وبناء العقيدة القتالية الجمعية التي قدمت أيضا نماذج مشرفة في حروب صعدة.


تقدير خاطىء
منذ فبراير 2016م ، قدر العالم وليست قيادة تحالف العدوان فقط أن صنعاء باتت تفقد الأرض واضحت عاجزة عن استردادها ، وتعمل فقط ضمن استراتيجية استنزاف العدوان وإطالة أمد الحرب بما يضاعف خسائر التحالف ، وفي انتظار تشكل ضغط دولي يوقف الحرب ، وعززت ذلك تطور الأحداث لاحقا في العام 2018م أحداث الساحل الغربي .


في العامين 2016م و2017م تم وضع اهم معالجة لأسباب وعناصر التراجع في عدن والجنوب موضع التطبيق كمسار أساسي وعاجل خاصة بعد فتح العدوان لجبهة نهم المهددة لأمن العاصمة صنعاء.


وانكب الشهيد الرئيس صالح الصماد بتوجيهات ومتابعة حثيثة من القيادة الثورية ، على إعادة بناء الروح الإيمانية أو العقيدة القتالية للمقاتل اليمني كركيزة أساسية للانخراط في القتال سواء لمن كانوا في السلك العسكري ضمن قوام الجيش والأمن أو من اللجان الشعبية التي هبت للدفاع عن الأرض في وجه العدوان ، مقرونا ذلك مع تحديث مستمر ومضطرد لبرامج التدريب القتالي للجان الشعبية والتدريب القتالي النوعي أيضا، والاستفادة من كافة الخبرات العسكرية بما يؤهلها لمواجهة مختلف ظروف القتال بإتقان واقتدار على مختلف ظروف القتال ، يشمل ذلك الاستفادة من تاريخ الحروب العالمية أو التي خاضها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وقدم القرآن فيها دروسا حية للأجيال.


وبإعادة النظر إلى المقابلة التي أجرتها قناة العربية بشكل مفاجئ آنذاك مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 2017م ،كان التحالف ينظر بقلق إلى استراتيجية صنعاء لبعث روح جهادية في كل القطاعات على أسس إيمانية صحيحة وليس فقط انصار الله أو السلك العسكري ، باعتبار أن الأنصار هم كل الشعب اليمنى العائد لهويته الأنصارية من زمن الرسول محمد وآل بيته الأطهار من بعده .


وبرغم أن بن سلمان في مقابلته تلك وبتوجيه من الاستخبارات الأمريكية والصهيونية حاول الايهام بأن طول مدة الحرب استراتيجية تخدم أهداف الرياض لا خصومها ، وتمكنها من استئصال حركة أنصار الله بروية ، بدلا من تخفيهم إذا ما تحقق النصر سريعا حسب قوله ، في محاولة لإخراس الألسن وتململ الداخل السعودي ودول العالم الذي أخذ يحاصره بالأسئلة عن طول مدة الحرب وادعاء حرصه على دماء جنوده وعدم وصول العزاء إلى كل بيت سعودي .
إلا أن جوهر كلام بن سلمان كان يعكس حقيقة عقدة التحالف ،وتخوفه مما ستؤول إليه الأمور مع مضي الأيام وبناء الكتائب العسكرية المؤهلة عسكريا وإيمانيا ، ومن هذا المنطلق يمكن فهم اهم الأسباب التي جعلت من الشهيد الرئيس صالح الصماد هدفا عاجلا في ظل استحالة الوصول إلى السيد القائد عبدالملك الحوثي ، وإعلان قائمة المطلوبين في محاولة للفصل بين القيادة والقاعدة، بين القادة وعامة الشعب .
لقد ساهم الالتفاف الشعبي حول شخصية الشهيد الرئيس صالح الصماد بشكل فاق الرئيس إبراهيم الحمدي الذي قتلته السعودية بيد عملائها في الداخل ، في تحقيق تقدم مضطرد وملحوظ باتجاه تحقيق الهدف الأساسي لمسار الانتصار وإعادة بناء الروح الجهادية الأنصارية للجيش وللشعب اليمني بما يتوافق مع شروط القرآن لتحقيق الانتصار ، رغم العوائق من الشريك السياسي آنذاك وآلة التحالف الإعلامية والمالية .
وتلك النجاحات على هذا المسار الهام عجّلت بدفع التحالف إلى إبراز بطاقته في صنعاء بعد فشل عمليات التشويه والتشكيك في إيقاف تقدم هذا المسار الحيوي ، وقاد ذلك إلى أحداث ديسمبر الخيانية في العام 2017م ، ومحاولة إسقاط صنعاء من الداخل.
ومع سقوط مؤامرة الخيانة الخطيرة في صنعاء ، أضحى اغتيال الشهيد الرئيس صالح الصماد مهمته الأساسية ، وفي هذا السياق جندت التحالف الخلايا في الحديدة والتي كان دائم التردد عليها لاغتياله ،ومنع الفشل كما حدث في ديسمبر وخسارة التحالف لعميله عفاش.


إطلالة حاسمة
شكل وصول قوى العدوان إلى ضواحي مدينة الحديدة ، وقطع الطريق الرئيسي الواصل إلى صنعاء حدثا مفصليا ، ورغم أن العملية الهجومية على الحديدة تشابهت في ظروفها وتخطيطها وتوقيتها في شهر رمضان مع العملية العسكرية التي مكنت من احتلال عدن ، إلا أن النتائج كانت مختلفة ، وبرز حينها أول تأثير للسلاح الاستراتيجي القائم على بناء الشخصية الإيمانية للفرد المقاتل في سبيل الله ، حيث شاركت عدة مجموعات قتالية في صد الهجوم عن الحديدة من التي خضعت للبناء الإيماني والتطوير القتالي الفريد.


تطور الأحداث في الساحل الغربي وترافقها مع التهويل الإعلامي من ماكينة التحالف أطفأته إطلالة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في يونيو 2018م وخطابه الذي خصصه لشرح تطور الأوضاع في الساحل الغربي ، حيث ابرز الخطاب عوامل القوة التي لا تزال كامنة في الجبال ، واطلق الخطاب صافرة لنزول آلاف المقاتلين الشعبيين المتقدين بسلاح الإيمان والواثقين من الانتصار إلى الحديدة لمواجهة جحافل الغزاة التي بغت ضواحي الحديدة ولديها من السلاح والتكنولوجيا الأعلى عالميا برا وبحرا وجوا .


لقد كان وراء المشاهد الأسطورية للمدرعات المحصنة وهي تتراجع أمام مقاتل يتسلح بسلاحه الفردي ، عمل متقن وكثيف بالدرجة الأولى بناء الهوية الإيمانية والتدريب للمقاتل بما يجعله واثقا صلبا في الميدان.


نقطة التعادل


لقد مثل صمود مدينة الحديدة ، نقطة التعادل الاستراتيجية الأولى في وجه أكبر هجوم يشنه التحالف وتشارك فيه مختلف آلياته البحرية والجوية والبرية بعشرات آلاف المرتزقة ، مدعومة بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية والمعلوماتية لدى البشر ، واذهل صمود اليمنيين ليس الأعداء فقط وإنما الحلفاء كالسيد حسن نصر الله وهو في قامته الجهادية العالية تمنى أن يشارك مقاتلا في معارك الساحل الغربي تحت راية السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي ، في مشهد عكس روحية المجاهدين الربانيين للسيد نصر الله ، وعظمة ما صنعه المقاتل اليمني حينما يستعيد روحية أجداده الأنصار وتدريب قتالي عال في أن.


إدارة مشتركة
لقد أكدت عمليات “البنيان المرصوص” و”أمكن منهم” و”نصر من الله” وقبلهما إسقاط مؤامرة حجور وفتنة التمرد والخيانة بصنعاء ، أن القيادة العسكرية للجيش واللجان استخلصت بنجاح الدروس والعبر من كل محطات المواجهة المؤلمة والمضيئة ، ومن بين تلك الاستخلاصات إنشاء إدارة قتالية مشتركة تفعل جميع الأسلحة والطاقات لتحقيق الهدف بتحقيق الإفادة القصوى ، تجلى ذلك في مواجهة التمرد بحجور ، وتوسع وتحسن الأداء في العمليات اللاحقة “نصر من الله” وما تبعها، وإدارة القتال بتناغم في 42 جبهة قاتلت جميعها صنعاء وصمدت بشكل أسطوري ، وشكلت محطات مضيئة في عمر القتال مع تحالف العدوان ، أمثلة الصمود الأسطوري والقتالي في ميدي ، معارك بعينها في نهم ، صمود شبوة حتى 2018م، وجرى تدفيع التحالف الكثير مقابل كل متر تمكن من احتلاله .


اطلاق تسمية معركة النفس الطويل من قبل السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي عنت فعلا مسماها ، ولم تكن عبارة عاطفية لدغدغة عواطف الجمهور وترويضهم على الصبر ، بل لخصت استراتيجية طويلة الأمد خلصت إليها صنعاء والقيادة العسكرية الثورية في مواجهة تفوق الآلة العسكرية والمالية والإعلامية للتحالف عملت في مسار تحقيق النصر على التحالف ، وتقطيع الوقت بانتظار ثمار البناء على صعيد بناء المقاتل والسلاح والمزج بينهما .. وهو مسار منفصل عن مسار الصمود الشعبي والذي كانت له أدواته التي تتقاطع حينا مع مسار التطوير القتالي وتنفصل عنه في أماكن أخرى.


عمليتا “نصر من الله” و”البنيان المرصوص” المذهلتان للمؤمنين والأعداء على السواء .. لم يتم البوح بعد بمعظم أسرارهما واهمها على الاطلاق المقاتل الذي بني لينتزع النصر من فم المستحيل ، ويهزم الكلاشنكوف مدفع الدبابة.