النباء اليقين

سَلةُ المستشارينْ في ذهنية الرؤساء الملوك!

الهدهد / مقالات

عبد العزيز البغدادي

ما حصل بين دونالد ترامب وبين جون بولتون مستشاره للأمن القومي من مشادَّة كلامية وخلاف حاد في وجهات النظر في سبتمبر 2019 يبين الفرق الشاسع بين أهمية المستشار في النظام المؤسساتي وغيره من الأنظمة التي يملك فيها الرؤساء سلطات الدولة ومن يملك السلطة يملك صاحبها، أليس الشعب هو صاحب السلطة ومالكها كما تهذي دساتير الدول التي يتلاعب بها الرؤساء وعصابات الحكم ؟!؛

المستشار القومي في الإدارة الأمريكية على سوئها له نظام وهيكلية إدارية، وكيانه الوظيفي له أهمية كبيرة في توجيه عمل الرئيس, ولهذا رأينا أن ترامب بعد أشهر فقط من المجيء ببولتون تخلّص منه, لأن للمستشار معنى مؤثرا على سياسته يستمدها المستشار من القانون وليس من رأس الرئيس ولا هي رهن مزاجه فهو جزء من مؤسسة الرئاسة، بل من عقلها وإن كان من صلاحية الرئيس تعيينه وإقالته فليس من حقه تجاهل استشارته لأنها من أُسس صنع القرار، لذلك كان لتعيينه أو إبعاده معنى !؛

أما في البلدان التي يملكها الرؤساء الملوك أو الملوك الرؤساء فإن وظيفة المستشار تشبه سلة المهملات ولا معنى لتعيينهم أو إبعادهم، لذا لم يسبق أن أُبعد مستشار من وظيفته لأنها في ذاتها إبعاد خاصة لدى من ورثوا صلاحيات الرؤساء الملوك ولا ترى في تصرفاتهم ما يوحي بأن لديهم إحساسا بحجم المسؤولية !!؛

لهذا لا معنى لأي حديث عن إعادة بناء مؤسسات الدولة ما لم تبدأ بتحديد صلاحيات الرئيس بشكل جاد وحاسم وقاطع يمنع التداخل بينها وبين صلاحيات قيادة الثورة في البلدان التي تسود فيها الشرعية الثورية وبين صلاحيات رئيس الحكومة لمنع أي تغوّل أو تحكّم أو تداخل في المسؤوليات أو قدرة على التفريط في سيادة البلد والتدخل في شؤونه بحجة أن الرئيس الهارب هو الرئيس الشرعي ومن حقه أن يطلب من دولة أو تحالف شن حرب على بلده لإعادته رئيساً, إنها مهازل الرؤساء الملوك في أوضح تجلياتها !!، ولا مجال لبناء مؤسسات أي دولة يمتلك فيها مكتب الرئيس صلاحيات واسعة تصل إلى مديّات غير معقولة وغير منضبطة, فالانضباط في المسؤوليات والصلاحيات يبين ما هو لله وما هو للناس؛

وبناء سلطات الدولة يعني بناء مؤسساتها وتحديد الاختصاصات والصلاحيات بدقة والالتزام بضوابط حسن اختيار من يشغل الوظائف العلياء وغيرها وفق أسس ومعايير عادلة وصارمة وليس وفق الأمزجة والأهواء , وهذا يمكِّن الدولة من تقديم خدمة العدالة وتنمية وبناء المجتمع وتطوير قدراته والحفاظ على ممتلكاته، ويفترض أن يكون المستشار على أي مستوى جزءا من نسيج وهيكلية مؤسسات الدولة, ورأيه محل احترام لكي لا تكون وظيفته وظيفة ترفية أو هامشية، فهي وظيفة علمية لا يهتم بها إلَّا النظام الذي يحترم العلم والمعرفة والحكمة ولا يتجاهلها إلَّا من وجوده في الحكم ابتلاء !؛

ولأن الرؤساء والحكام العرب عديمو الرشد غالباً فإنهم يتعاملون مع السلطة والحكم تعامل الملَّاك المستهترين ولا يبحثون في من يستشيرونهم إن فكروا في استشارتهم عن الحكمة التي تنقصهم غالباً وإنما عن الولاء الشخصي وعما يُدخل في نفوسهم الاطمئنان على مواقعهم ، وإن ادّعوا في وسائل إعلامهم ليل نهار البحث عن المصلحة العامة فمصالحهم الخاصة هي محور اهتمامهم وأبرز الأدلة هذا التمكين العجيب للفاسدين الذين لم تهز مراكب أهوائهم ثورات ولم تغير من أحوالهم تغير أسماء الحكام في البلدان التي تأسست على الفساد بل تجد أحوالهم وأقصد المالية بالذات قد انتقلت من وضع إلى وضع أفضل, لأن لديهم آلية مرنة للتشكل والتلون وتغيير الشعارات والصور حسب الظروف والأحوال ويتقنون فن النفاق والتزلف بما يوافق أهواء الحاكم وطباعه ونفسيته ومستوى ثقافته الضحلة والسطحية ويتقنون الفهلوة وفن إرضاء الحاكم النزق والذي به خفة وعدم اهتمام بتقوى الله ، بل والذي لا يكتفي بأخذ العزة بالإثم لصد من يخالفه الرأي وإنما قد ينحدر إلى تصرف أكثر رعونة دون مبالاة لا بالله ولا بخلق الله وهما مقياس مستوى التقوى والحرص على الحكم بالحق والعدل اللذين يكملان بعض فمن يخشى الله ويتقيه يحرص على إرضاء الناس بالحق والعدل ، لأنه ما وجد في الحكم إلا لتحقيق هذا الغرض ولأن إرضاء الناس بتحقيق العدل إرضاء لله وهو جوهر العبادة . الذي ورد في قوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }. إذلا يقصد بالعبادة هنا مجرد الطقوس العبادية، لكن المقصود أنها وسيلة لإخلاص النية والعمل. ولهذا ورد عن رسول الله (ص): {من لم تنهه صلاته فلا صلاة له}. وهذا يعني انتفاء أهمية الوسيلة لعدم تحقق الغاية؛

فإذا لم تعد تستمع لصوت القلم فاعلم إن هناك مشكلة وإن لم تعد ترى أن للكلمة أثرها لدى الحكام والمسؤولين فاعلم إن هناك خللاً جللا يصل إلى حد اللامبالاة بدماء الناس وأعراضهم وأموالهم، أما إذا وصل هذا الخلل إلى القضاء وتحكم في مساره فقد وصل الأمر إلى مستوى الكارثة!.

(الرأي قبل شجاعةِ الشجعانٍ * هو أولٌ وهي المحلُّ الثانيْ

فإذاهما اجتمعا لنفسٍ حُرَّةٍ * بلغَت من العلياءِ كلَّ مكانِ)

(أبو الطيب المتنبي).