النباء اليقين

بعض إشكاليات الهوية والخصوصية (1 ـ 3)

الهدهد / مقالات

أحمد الحبيشي

تُشكل التحديّات على الدوام اختباراً حقيقياً لموازين القوى والنخب الجديدة والقديمة التي تتولى زمام التغيير في أي مجتمع ، وتساعد في الوقت نفسه على استكشاف نقاط الضعف والخلل في بنية العلاقات المتبادلة بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات المختلفة.. وعليه فإن التفكير من منظور ” مواجهة الغزو الفكري، والدفاع عن الخصوصية الثقافية ” ربما يعكس شعوراً مرتبكاً بالقوة أو التعالي، فيما يقود التفكير من منظور الاستجابة للتحديات الحضارية والتفاعل الإيجابي معها بدلاً من الانعزال عنها، إلى نقد البنية الداخلية للثقافة السائدة ، وفرز عناصرها المتكلّسة وغير القادرة على التجدّد، والعمل بعد ذلك على تطوير العناصر الفاعلة في بنية الثقافة بمنطق الإضافة والتجديد الابداعيين ، وصولاً إلى الاستجابة الحضارية للتحديات التي تفرضها فتوحات المعرفة ومنجزات العلم والتكنولوجيا , ومتغيرات الزمان والمكان ، وتحوّلات الحضارة في احد منعطفات التاريخ.

لا ريب في أن التحديات تُشكل بطبيعتها فعلَ استثارةٍ ، وإشارة تنبيه إلى ضرورة اليقظة في لحظة ما ، قد تكون حاسمة. ومن جانبها لا تكتمل اليقظة بدون معرفة طبيعة التحدي وقوته ومصادره ووجهة سيره ، وصولا الى استنفار القدرات الكامنة في المجتمع الذي يواجه هذا التحدي ، وفحصها والتأكد من صلاحيتها ، وقياس درجة قوتها ومدى استعدادها للتعامل مع اية تحديات محتملة.

والحال أن الهدف المحوري لمجمل هذه العمليات التي تقع في منطقة وسط ، بين الفعل وردود الفعل ، هو اختيار درجة وقدرة مفاعيل هذه العمليات على الاستجابة للتحديات الحضارية ، وإعادة تأهيلها إن كانت غير متوازنة مع قوة واندفاع التحديات المماثلة امامها.. بمعنى إعادة اكتشاف الذات ونقدها وغربلتها وتجديدها.

الاحتكاك والتثاقف

بطريقة لا تخلو من الخِفّة والتبسيط ، يقترح بعض الذين كتبوا حول مخاطر العولمة على الهوية والثقافة بعض الحلول لمعالجة إشكاليات التعاطي مع هذه المخاطر المفترضة ، بيد أن تلك الحلول تُكرّس في نهاية المطاف مخرجات ثقافة الاستبداد الشمولية التي نشأت على تربة فقه التشدد ووجدت في بيئة الحروب الدينية التوسعيّة وحروب الاستعمار والغزو والعدوان والحروب الباردة ، مفاعيل إضافية.

كان التفكير بواسطة تلك الثقافة يُسوَّغُ للسياسة والآيديولوجيا إقامة ستار حديدي حول المجتمعات ، وفرض سيطرة صارمة ومطلقة على العقل والدين والحرية من خلال وسائل الإعلام والثقافة ومناهج التربية والتعليم ، بهدف تشكيل وتعليب الوعي الاجتماعي للناس في تلك المجتمعات ، إنطلاقاً من منظور ثقافوي يصادر حرية الاختيار، ويحرّم التعددية ويمارس الوصاية على الحقيقة باسم خصوصية تاريخية أو دينية أو آيديولوجية أو قومية!!

ولئن كانت العولمة تُفسح مجالاً أوسع لانفتاح متبادل بين الشعوب والمجتمعات والأفراد والجماعات في مختلف الحقول الاقتصادية والثقافية والإعلامية والإنسانية، فهي تخلق أيضاً إشكالياتها التي تولد من رحم مفاعيلها الجديدة.. فهل يؤدي هذا الانفتاح إلى انكشاف وتعرية الحقول الأضعف ، مقابل سيطرة أحادية نسبية أو مطلقة للحقول الأقوى.. أم يؤدي إلى بناء الدولة الحديثة وتعميق التعددية الثقافية والحضارية ، وتوطيد أسسها في المجتمع البشري والبيئة العالمية؟

بوسعنا القول إن ما يترتب على العلاقات بين الثقافات من إشكاليات ليس أمراً جديداً، لأن علم الانتروبولوجيا توصّل منذ فترة ليست قصيرة إلى صياغة مفاهيم معرفية تساعد على فهم آليّات الاحتكاك بين الثقافات، واكتشاف أنساق التفاعل فيما بينها ، ومن هذه المفاهيم ما يُسمّى بالتثاقف.

لا يمكن تجاهل حقيقة أن الإنجاز الأبرز لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات هو حدوث إندماج عضوي بين الفضاء الطبيعي والفضاء الألكتروني ، أسفر عن ضغط الزمان والمكان وتقريب المسافات بينهما ، وإزالة الحواجز الطبيعية والسياسية بين جغرافيا الأسواق وديموغرافيا المجتمعات وسوسيولوجيا الثقافات.

في هذا السياق يتوقف الحضور الإبداعي للثقافات في العالم الجديد على وجود استراتيجيات فاعلة للنهوض بالثقافات وتنشيط مفاعيلها في المجتمعات الضعيفة ، على نحو يتنقل بها من النطاق الضيق لثقافات الهويّة ، إلى الفضاء الواسع لثقافات المشاركة.

لعل ذلك يستوجب تطوُّر الوعي بطبيعة المشكلات القائمة ، والخروج من نفق وعي المشكلات القديمة التي أفرزها عصر الاستعمار والسيطرة الكولينالية ، بما هي مشكلات تتعلق بالغزو الفكري والاستلاب الثقافي ، وما يرتبط بهما من دفاع عن الهويّة ، وتمسُّك بالخصوصية الثقافية في إطار النزوع إلى السيادة والاستقلال.

تختلف إشكاليات الهوية الثقافية في عصر العولمة عنها في عصر الكفاح ضد الاستعمار والنزوع إلى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة أو الدولة الأمة.. فيما ترتبط إشكاليات الهويّة التي تفرزها تحديّات العولمة وثورة الاتصالات وتقنية المعلومات بفضاء طبيعي والكتروني تتفاعل فيه على نحو غير مسبوق مفاعيل اقتصادية وثقافية وسياسية وإعلامية وإنسانية وأخلاقية ، في عالم مترابط ومتكامل ، بصرف النظر عن تناقضاته واختلالاته التي يستحيل معالجتها بالإنعزال عن هذا الفضاء الإنساني الواسع والمتنوع ، بل بالاندماج فيه والمشاركة في تعديل شروط توازناته ، وإعادة صياغة مفاعيله الداخلية وبنيته التراتببية.

في هذا الفضاء المفتوح لم يَعُد بمقدور أي جماعة بشرية أن تعيش بشكل مستقل وبوعي مستقل وبممارسة تاريخية مستقلة، خارج سيرورة الحضارة الإنسانية المعاصرة ، وبمعزل عن امتلاك شروطها المعرفية وفواعلها المادية.

بالقدر ذاته يتطلب الإلتحاق بالعصر والاندماج في حضارته الحديثة فواعل وموارد بشرية وثقافية ومعرفية نشطة ومتجددة ، وبدون ذلك لا يمكن فهم ومعالجة الإشكاليات الحقيقية للهوية والخصوصية المفترضتين ، وفي مقدمتها إشكاليات التقليل من خطر التماهي مع الثقافة السلفية التي تنزع إلى الإقامة الدائمة خارج العصر، وتتمسك بثقافات ضعيفة وعاجزة عن الاستمرار والتجدد.

ثقافات وهويّات سادت ثم بادت

يقيناً إن الثقافات والخصوصيات والهويّات ليست حتميات مثالية وثوابت مطلقة ، بمعنى أنها ليست عناصر ثابتة عبر التاريخ ، لأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه وهويته وعاداته وتقاليده في بيئات اقتصادية وثقافية وحضرية وبدوية مختلفة في المجتمع الواحد ،عبر سيرورة حضارية متجددة وغير ثابتة.. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت هنالك ثقافات وحضارات وهويّات سادت ثم بادت عبر التاريخ ، رغم أن أطلالها وآثارها الباقية تشهد على أنها كانت قوية ومتألقة في زمانها ومكانها..، غير أن تحوّلها الى آثار ماضوية تاريخية ، يعد دليلاً أكيداً على عجزها عن التجدد والاستمرارية ، وفشلها في الإستجابة لتحديات حضارية واجهتها في منعطفات حاسمة من تاريخ تطور المجتمع البشري.

يُعلمنا تاريخ الحضارات بما فيها الحضارة العربية الإسلامية أنه لا توجد ثقافة مستقلة كلياً عن الثقافات الإنسانية الأخرى ، لأن الثقافات محكومة بآليات وأنساق التفاعل والتثاقف والتلاقح المحلي والخارجي حتى وأن كان ذلك يتحقق بنسب متفاوتة.

وما من شك في أن التفاوت الذي نقصده ، محكومٌ هو الآخر بقدرة كل ثقافة على التجدد والإستجابة لتحديات التحول في أزمنة الانعطافات التاريخية الكبرى ، أي بقدرتها على إبداع حلول معاصرة للمشاكل الجديدة التي تبرز وتستجد في مجرى تطور مجتمعاتها ، بدلاً من النزوع إلى الانعزال والإقامة الدائمة في الماضي ، والمحافظة على البنى المتكلّسة للثقافة الموروثة ، والإفراط في الوهم بإمكانية إعادة انتاج حلول ماضوية لإشكاليات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية معاصرة ، أو الاستنساخ الأعمى لحلول جاهزة ابدعتها ثقافات أخرى في عصور وأزمنة سالفة.

اللافت للنظر أن الذين يُحذّرون بصوت عالٍ من خطر العولمة الصناعية والتجارية على الهوية والخصوصية الثقافية ، لا يحدّدون طبيعة المخاطر ولا يحلّلون محتواها بدقة ، ولا يجتهدون في مقاربة وتفكيك ونقد إشكاليات الهوية والخصوصية ، والتعرّف على وجهة كل منهما باعتبارهما أهدافاً لهذه الاخطار المفترضة التي يتحدثون عنها بقلق شديد!!.

إن التحليل الدقيق للخطر المفترض ، والتوصيف الدقيق للهدف الذي يسعى إليه هذا الخطر ، ضائعان تماماً في عموم المناقشات والتناولات التي أشرنا إليها سابقاً.. ولعل ذلك يعود إلى هروب نمط التفكير المألوف في حياتنا الثقافية التقليدية من النقد الموضوعي للثقافة العصرية والثقافة الموروثة ، والذي سيفرض علينا بالضرورة نقداً موازياً لثقافة الهوية والخصوصية.. فبدون ممارسة النقد وتعظيم دوره الوظيفي لن نستطيع بلورة موقف سلبي أو ايجابي من ” خطر ثقافي ” مُفترَض تحمله إلينا رياح التغيير في هذا العصر ، ولن نستطيع أيضاً التمييز فيما إذا كان هذا الخطر يهدد احتياجات النهوض الحضاري للقوى الجديدة والنامية في المجتمع ، أم يهدد مصالح البنى التقليدية للمجتمع ونزوعها الى المحافظة على ثقافتها المتكلسة والمهيمنة ؟.

دون هذا النقد لا نستطيع تعيين سبل وأشكال الدفاع عن خصوصيّة وهويّة مفترضتين، ومعرفة ما تنطوي عليه البيئة الثقافية لهذه الهوية والخصوصية من قابلية للانكشاف أمام التحديات الحضارية ، أو قدرة على الاستجابة لها.

محنة العقل في العالم الإسلامي

من نافل القول إن العالم العربي دخل في نهاية القرن العشرين والألفية الثانية مأزقا حادا جاء كمحصلة لتراكم مريع من الإخفاقات والتراجعات التي تتالت منذ قرون طويلة، تمتد إلى بدايات ظهور السلفية المتشددة التي مارست مختلف أشكال العداء للعقل، وحاربت الفلسفة والعلوم الطبيعية والترجمة، واضطهدت رواد العلم المسلمين من الفلاسفة وعلماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق، وأحرقت كتبهم الثمينة، وحصرت صفة أهل العلم والعلماء على المشتغلين فقط في مجال الفقه والخطابة الدينية الشفاهية وحفظ وتلقين النصوص الفقهية، الأمر الذي مهّد لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج وتطوير وتحديث منجزات العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وصولاً إلى غروب شمس الحضارة العربية والإسلامية.. وزاد من خطورة هذا المأزق أنّه تزامن مع انتقال الحضارة الحديثة في نهاية الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.. ومن العالمية إلى العولمة.

مما له دلالة ان الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية، انتجت وقائع وحقائق جديدة، ووحدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي.. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الإلكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود.. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية اندماجية لا متناهية، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد.

كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة ً بين بنى محورية ذات حدود صارمة ، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية.. اما عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بنزوعه نحو التحول الى بنية سوقية محورية ومندمجة، تصبح التناقضات معها قائمة ً بين فاعِلَيْن متميِّزَيْن بطريقتي تفكير متناقضتين.. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الاندماج ضمن سوق كونية تتوفر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات، فيما يفكر الآخر بعقلية انعزالية تقليدية، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية، وأفكار ماضوية متكلسة وجاهزة ، ما يؤدي الى إهدار الفرص المتاحة للتقدم، والاستمرار في إعادة إنتاج العجز، وتهميش الذات بالذات نفسها!!

صحيح ان ثمة فجوة حضارية كبيرة تفصل بين العالم العربي والإسلامي وبين الغرب ، وهي فجوة تجسد تخلف البلدان العربية والاسلامية عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى التي دشنتها الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر الميلادي وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة، وما ترتب على ذلك من عالمية ذات طابع عمودي، لكن عصر الثورة الإلكترونية، بما هو عصر الانفجار المعرفي وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع الى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني.. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل الكترونية ومعلوماتية.. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا ، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الاتصال، وما يترتب على ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس.

من المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الاندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها.. بمعنى ان العولمة فضاء مفتوح للمجايلة والمشاركة والاشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية.

يُخطئ من يعتقد أن العولمة الرأسمالية ظاهرة جديدة يسهل مناهضتها ومقاومتها بالاحتجاجات والمظاهرات والمقالات والدعاء في المساجد ، فثمة ميول قديمة للعولمة ارتبطت بتطور نمط الانتاج الرأسمالي وميوله نحو العالمية التي عززتها وضاعفت مفاعيلها إنجازات العلوم الحديثة ، ونتائج الكشوفات الجغرافية ومخرجات الثورة الصناعية الأولى في منتصف الألفية الثانية من التاريخ الميلادي ، لتتحول بعد ذلك إلى نظام عالمي للإنتاج والتسويق والاستهلاك نشأت على تربته حروب وخطوط السيطرة على الأسواق ومصادر الخامات وممرات الملاحة الدولية في مختلف القارات!!.

لا ريب في أن الاستعمار وحروب التوسع الاستعمارية أسهما في إيقاظ الوعي الوطني وظهور الحركات القومية التي توّجت بولادة الدولة الأمة على أنقاض الدول الامبراطورية الجامعة والهويات الدينية والعصبية المانعة ، وما ترتب على ذلك من إشكاليات ثقافية نجمت عن ظهور نزعات مصاحبة للدولة القومية مثل الشوفينية والتعصب القومي ، ووصلت ذروتها في النازية والصهيوية والأبارثيد ، بيد أن المظهر الأبرز للعولمة في الحقبة الجديدة والراهنة من عصرنا بقدر ما اكتسب طابعاً ثورياً – نتيجة لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي اختصرت المسافات ، وتجاوزت الحدود السياسية والقومية والثقافية – أسهم في تقويض الأسس المادية للشوفينية وضيق الأفق الوطني والتعصّب القومي ، وصولاً الى إفساح الطريق أمام توسيع فرص وإمكانات تلاقح الثقافات وتحفيز الشعوب والأمم المختلفة على بناء نظام عالمي للقيم الانسانية.

ولعل تلك الميول تنطوي على أبعاد ايجابية من شأنها تحفيز مختلف الثقافات على الإبداع في مجال القيم الإنسانية المشتركة ، وما يترتب على ذلك من تعظيم فرص مطالبة الشعوب والمجتمعات المختلفة بالديمقراطية والعدالة والمساواة ومكافحة جميع أشكال التمييز بين البشر رجالاً ونساءً ، مقدمتها منها التمييز ضد المرأة!

لا أبالغ حين أقول إن الاستجابة لتحديات العولمة في طورها الجديد لا تتحقق بواسطة طرح سؤال الخصوصية والهوية من منطلق دفاعي انعزالي، لأن النزوع إلى الدفاع أو المقاومة الدفاعية قد ينطوي على رفض مموّه للقيم الإنسانية المشتركة، وهروب متعمد من واجب دفع استحقاقات الالتحاق بالعصر والاندماج في الحضارة الحديثة ، وصولاً إلى العجز المطلق عن إضفاء أبعاد ثقافية على هذه القيم المشتركة، والانسحاب من مباراة تطوير وتأهيل الثقافات لاستيعاب مطالب واحتياجات الشعوب والمجتمعات في هذه الحقبة من تاريخ تطوُّر الحضارة البشرية المعاصرة.

ليست الخصوصيات الثقافية عناصر ثابتة لا تخضع للتطور التاريخي الحضاري ، ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن الثقافة السياسية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي تصدّت للأفكار الدستورية والديموقراطية تحت شعار مقاومة «التغريب» ، ومحاربة « الافكار المستوردة »، كما عارضت الميثاق العالمي لحقوق الانسان ، ورفضت – بعناد شديد – تلبية مطالب المجتمع الدولي الحديث بإصدار تشريعات وقوانين وضعية لتحريم الرق، وكانت تلك المواقف الرافضة للحداثة تتغطّى دائماً بذرائع «الهوية والخصوصية الدينية والثقافية»!!

لم يكن الفقهاء في عاصمة دولة الخلافة العثمانية يفكرون خارج الخصوصية الثقافية حين عارضوا في رسالتهم الشهيرة إلى السلطان العثماني في القرن السابع عشر الميلادي التوقيع على معاهدة ينسفاليا 1648م التي فرضتها حاجة الرأسمالية الصاعدة والثورة الصناعية في عصر النهضة لوقف حروب التوسع الإقطاعية ، وتأسيس فكرة السيادة الحدودية الوطنية ، وتمهيد الطريق لولادة الدولة القومية وبناء منظومة جديدة للعلاقات بين الأمم والدول.

كان فقهاء الدولة العثمانية في العالم الإسلامي يرون في التوقيع على هذه المعاهدة تعطيلاً لآيات ( السيف ) وإنكاراً لفريضة الجهاد التي تُوجب نشر الدعوة الإسلامية والتمكين لدين الله في الأرض بواسطة الغزوات الجهادية ، وكذلك الحال عندما أفتى الفقهاء في القرن التاسع عشر بعدم جواز الخضوع لمطالب الدول الأجنبية بتحريم الرق ، لأن التحريم المطلوب تشريعٌ وضعيٌ لا أساس له في الشريعة الإسلامية التي تُبيح للأحرار شراء وتشغيل العبيد ، والتسّري بالجواري ونكاح ملك اليمين !‍‍

ومما له دلالة أن الفقهاء ورجال الدين في اسطنبول والقاهرة ومكة وطنجة وقُم وصنعاء اتهموا – آنذاك أوروبا وأمريكا – التي كانت تضغط في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، لإصدار تشريعات تحرّم الرق- بأنهما تسعيان إلى تغيير القرآن والتدخل في نمط ومناهج حياة المسلمين.

من خلال ما تقدم نستطيع تفسير اسباب تأخر العالم العربي والإسلامي عن الاستجابة الثقافية لتحديات الموجة الأولى والمبكرة للعولمة الرأسمالية والحضارة الصناعية الحديثة اللتين استوجبتا صياغة أسس جديدة ومعاصرة للعلاقات بين الدول والأمم والأديان على نحو ما تضمنته معاهدة وينسفاليا في القرن السابع عشر، ومعاهدة تحريم الرق التي سعت الثورة الأميركية بالتعاون مع أوروبا الرأسمالية إلى تدويلها في أواخر القرن التاسع عشر.

لا نحتاج إلى القول إن تحريم الرّق في العالم الإسلامي تم بمقتضى ضغوط الحضارة الصناعية الحديثة ، والموجة الأولى من « العالمية » التي رافقت ظهور وتطور نمط الانتاج الرأسمالي كنظام اقتصادي عالمي في العصر الحديث ، وقد نتج عن تحريم الرّق تراجعٌ مطلقٌ لخصوصيات ماضوية في الفقه الديني والنظام القيمي والحقوقي لثقافتنا ، وأهمها حقوق الرجال في التسرّي بالجواري ، وحقوق الأحرار في التمييز بينهم وبين العبيد في المعاملات والعقوبات الجنائية ، بحسب ما ينص عليه تأويل الفقهاء الأسلاف للشريعة الإسلامية.

لم يكن بروز مثل تلك الإشكاليات شيئاً جديداً في التاريخ الثقافي للمجتمعات الإسلامية ، فقد ظل العالم الإسلامي يرفض استخدام المطبعة تحت ضغط الفتاوى الفقهية التي شكلت عنصراً طاغياً في النسيج التقليدي لثقافتنا.

كان رأي الفقهاء في المطبعة – على سبيل المثال – أنها مفسدة من شأن السماح باستخدامها فتح الباب على مصراعيه لانتشار الكبائر والموبقات مثل طباعة الرسوم وتغيير حروف القرآن، والقضاء على الكتابة بالخط العربي الذي كان حرفةً مجزيةً يرتزق منها الفقهاءُ والقضاة وكبار موظفي الدواوين في بلاط دولة الخلافة، ويحصلون من ورائها على الحظوة والمال وعلوّ الشأن.

بسبب هذه الثقافة لم يفطن المسلمون لقيمة المطبعة في التطور الحضاري ، ولم يستوعبوا جيداً دورها الوظيفي في إطلاق مفاعيل التعليم والثقافة والعلوم والمعرفة وتحويلها إلى فواعل اقتصادية واجتماعية وحضارية، ولذلك كان نظام التعليم في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصوراً في الجوامع والكتاتيب التي اكتفت بتحفيظ القرآن وشرح الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء ، بالإضافة الى تلقين قواعد اللغة العربية والنصوص الشعرية ، كما كانت الدراسة في الجوامع والكتاتيب ترتدي طابعاً نخبوياً ضيقاً، وتنحصر في نطاق ابناء الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المحيطة ببلاط السلطان مثل القضاة والفقهاء وقادة الجيش والجواسيس والتجار.

المعروف أن الطباعة العربية بالحروف ظهرت في أوائل القرن السادس عشر في إيطاليا بأمر من البابا يوليوس الثاني ودشنها البابا ليون العاشر سنة 1516م، وهو العام الذي طبع فيه أول كتاب ديني عن المسيحية ، تلاه طبع سفر الزبور سنة 1516 ، وبعد قليل طبع القرآن الكريم في البندقية ، ثم أعدمت طبعته خوفا ً من تأثيره على معتقدات النصارى، بيد أن الإيطاليين طبعوا في روما أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإيطالية سنة 1547م كما طبعوا قانون ابن سينا في مجلد ضخم عام 1593 م وكتاب فيزياء الهواء للخوارزمي وهما كتابان علميان أفتى الفقهاء المسلمون بإحراقهما الى جانب عشرات الكتب في العلوم الطبيعية التي تعرضت لهجوم شديد على يد أبي حامد الغزالي وابن تيمية حيث قرر فقه السلاطين منذ ذلك الحين استبعاد هذه العلوم بذريعة أنه لا نفع منها في معاش الناس ، كما قرروا أيضا حصر صفة ( العلماء ) على المشتغلين في، تحفيظ وتفسير القرآن وكتب الحديث واللغة العربية فقط. ما أدى إلى توقف الحضارة الاسلامية عن انتاج العلوم الطبيعية وانتقالها الى الغرب والتمهيد للثورة الصناعية خارج العالم الاسلامي منذ ذلك الحين وحتى الآن !!

وقد كثرت المطابع العربية في أوروبا وطبعت فيها مئات من كتب الفلاسفة العرب والمسلمين الذين اضطهدهم الفقهاء وتعرضت كتبهم للإحراق بعد تكفيرهم ، وكانت أكثر تلك المطابع في لندن وباريس وليبسك وغونتجتن وروما وفينّا وبرلين وبطربسبرج وغيرها.

اللافت للنظر أن العالم الإسلامي عرف الطباعة لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر في الأستانة عاصمة دولة الخلافة العثمانية لكن الفقهاء قاوموا وجودها بقوة ، الأمر الذي دفع يهود الدولة الإسلامية إلى الاستفادة منها بطبع ترجمة عربية للتوراة ، أما الطباعة باللغة العربية فقد دخلت العالم الإسلامي لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد جلبي وابنه سعيد وكان الجلبي سفيرا ً للدولة العثمانية في باريس فشهد وابنه سعيد فوائد الطباعة ، ونجح بصعوبة بالغة في إقناع الفقهاء الذين أصدروا عام 1728 م فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط.

وعندما لاحظ الفقهاء انتشار كتب الحكمة والفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك والجغرافيا والفيزياء والكيمياء ورخص أسعارها شعروا بالانزعاج ، فأصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وأذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم الأمر الذي أفسح المجال لانتشار المطابع وظهور الصحف والمجلات والمدارس الحديثة التي تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة.

من المفارقات المؤلمة ، أن المسلمين كانوا يصنعون أوراق الطباعة ويصدّرونها إلى مختلف البلدان وفي مقدمتها الصين التي اشتهرت بصناعة وتصدير المطابع اليدوية القديمة إلى الأمصار المختلفة في العصور الوسطى ، باستثناء العالم الإسلامي الذي رضخ للفتاوى الخاصة بتحريم الطباعة باسم الدين ، ثم أُجبر بالقوة على التعامل مع المطبعة، بعد أن عرفها لأول مرة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد نابليون بونابرت الذي أحضرها مع الحملة الفرنسية على مصر وطبع بها كتاب «وصف مصر» الشهير ، وهو أول كتاب يطبع باللغتين العربية والفرنسية في العالم الإسلامي.

وعندما فكر الباب العالي في عاصمة دولة الخلافة – اسطنبول – في استخدام المطبعة وآلات التصوير الفوتوعرافي ، بعد أن بدأ الاهتمام بفوائدهما إثر دخولهما مصر وطبع كتاب «وصف مصر» باللغة العربية، ثارت ثائرة الفقهاء الذين اعتبروها بدعةً وغزواً ثقافياً شيطانياً ، وأصدروا فتوى مماثلة لفتوى عدم جواز التوقيع على معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر والفتوى المعارضة لمعاهدة تحريم الرق التي صدرت في وقت لاحق.!!

حدث ذلك أيضاً في العصور الوسطى عندما أسهم نشاط حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في استنهاض أدوات التفكير العلمي ومناهج البحث الفلسفي ، ما أدى إلى أن يحارب الفقهاءُ المتشدّدون في منتصف الألفية الهجرية الأولى ومطلع الألفية الميلادية الثانية ابن رشد وابن سيناء والفارابي والرازي وابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم من القمم الفكرية والعلمية في التاريخ الاسلامي التي ترجمت لارسطو وأفلاطون وسقراط وأعلام الفكر الاغريقي القديم ، وخاضت بجسارة في علوم الطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء والفلك والفلسفة قبل أن يتعرض العقل والعلوم الطبيعية للحرب والتسفيه والتحقير والاضطهاد على أيدي الفقهاء المشتغلين في علوم القرآن والحديث.

لم يكتف الفقهاء المتشدّدون بمحاربة الفلسفة وعلوم الطب والرياضيات والكيمياء والفيزياء والمنطق والفلك ، بل سعوا إلى تكفير العلماء المسلمين الذين اشتغلوا في هذه العلوم والتنكيل بهم وإحراق كتبهم ومؤلفاتهم ، وكانوا سبباً في انتقال المؤلفات الناجية من محارقهم إلى أوروبا ، حيث أُمكن ترجمتها من العربية إلى اللغات الأوروبية ، وما تمخض عن ذلك من إرهاصات نهضوية أخرجت أوروبا المسيحية من ظلام العصور الوسطى على يد العلماء المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل والتكفير في العالم الاسلامي ، وأفضت الحرب التي شنها فقهاء التشدد على العقل منذ منتصف القرن الهجري الخامس الى تأسيس مشروع ثقافة طقوسية نكوصية ابتعدت عن جوهر العقيدة الإسلامية، ومهدت لغروب شمس الحضارة الإسلامية ، وسقوط بغداد تحت براثن الغزو المغولي الذي دشن عصر الانحطاط ، ما أدى إلى دخول العالم الإسلامي نفقاً مظلماً وطويلاً لم نخرج منه حتى الآن.

يتبع