النباء اليقين

تداعياتُ “توازن الردع الثانية”: “الرياض” محاصَرةٌ بالفضيحة و”واشنطن” بلا خيارات

الهدهد

المسيرة | ضرار الطيب

“عملياتُنا ستركِّزُ على استهداف الضرع الحلوب الذي يعتمدُ عليه الأمريكيون”.. هكذا كشف قائدُ الثورة بوضوح عن ملامح مرحلة “توازن الردع” عقب عمليتها الأولى على حقل “الشيبة” النفطي، وهكذا تجسّدَ الوعدُ بصورة أكثر وُضُوحاً واتّساعاً في العملية الثانية على مِصفاتي “بقيق” و”خريص”.. العمليةُ التي ما زالت تداعياتُها الاقتصادية والسياسية تكشفُ عن دمار هائل لحق بالمصفاتين، وتؤكّـد أوَّلاً على أن المرحلة العسكرية الجديدة ماضية، بشكل ممنهج ودقيق، وبنجاح منقطع النظير، في تجفيف “الضرع” السعودي، باعتراف المملكة نفسها، وثانياً، على أن هذا هو الطريق الأكثر فعالية لوقف العدوان الذي أثبت خلال السنوات الماضية أنه يتغذى على النفط، وهو ما ظهر جلياً في ارتباك وتخبط موقف الإدارة الأمريكية إزاء العملية.

 

السعودية تفقدُ السيطرةَ على تداعيات العملية

لم تستطعِ السعوديةُ الصمودَ في التستُّرِ على حجم آثار عملية “توازن الردع” الثانية ليوم كامل، فبعد انتشار مشاهدِ حرائقِ “بقيق” التي وثّقت من الأرض ومن الفضاء واضطرت السعودية إلى الاعتراف بالهجوم في بداية اليوم، وجدت الرياض نفسَها، ليلاً، أمام سيلٍ من المعلومات و”الفضائح” التي أكّـدها حشدٌ من وكالات الأنباء الدولية ووسائل الإعلام العالمية، والتي كشفت عن توقف صادرات النفط السعودي جراء الهجوم، الأمر الذي دفع بوزير الطاقة السعودي الجديد، ليقرَّ بالأمر رسمياً، حيث أعلن أن الهجماتُ “أدت إلى توقف كمية من إمدادات الزيت الخام تقدر بنحو (5.7) مليون برميل، أَو حوالي 50% من إنتاج أرامكو”، كما أدت إلى “توقف إنتاج كمية من الغاز المصاحب تقدر بنحو (2) مليار قدم مكعب في اليوم، تُستخدم لإنتاج 700 ألف برميل من سوائل الغاز الطبيعي”، وأضاف أن الهجمات ستؤدي أَيْـضاً “إلى تخفيض إمدادات غاز الإيثان وسوائل الغاز الطبيعي بنسبة تصل إلى حوالي (50%)”.

اعترافٌ نسف ادعاءاتِ السعودية السابقة بـ”السيطرة على الحرائق” وكشف أن الدمار الذي لحق بالمصفاتين لم يكن قابلاً للسيطرة عليه في الأَسَاس، وهو الأمرُ الذي تفسره الأرقامُ والنسب التي قدمها الوزير السعودي، والتي تؤكّـد أن الضربة أصابت “قلبَ النظام السعودي” مباشرة -بحسب توصيف مراقبين دوليين-.. توصيفٌ لم يكن بعيداً عن الواقع بالنظر إلى ما مثلته هذه الأرقام من تدهور اقتصادي في سوق النفط، وبات “يستحضر شبح ارتفاع سعر برميل النفط إلى سعر 100 دولار” بحسب تصريحات خبراء لوكالة “رويترز”، فيما رجحت شبكة “سي إن إن” أن السعر قد يرتفع بمقدار 10 دولارات للبرميل.

وأضافت رويترز تفاصيلَ أُخرى لخسائر السعودية جراء الهجوم، إذ كشفت أن الأسهم السعودية سجلت هبوطاً مفاجئاً، أمس الأحد، وأن سهم الشركة السعودية للصناعات الأَسَاسية (سابك)، أكبر شركة بتروكيماويات في المملكة، هبط بنسبة 3.5% بعد أن أعلنت عن نقص في الإمدادات بنسبة 50%، وأضافت الوكالة أن ردَّ الفعل في الأسواق الخليجية على الهجوم كان سلبياً، حيث نزل مؤشرُ دبي أيضاً.

من ناحية أُخرى، وضمن تداعيات العملية، قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية: إن “توقيت هجمات الطائرات بدون طيار على منشآت أرامكو سيئٌ للاكتتاب العام القادم من أرامكو ويمثل تحديًا لمسؤولي النفط بعد تغيير قياداتها”، ونقلت عن “جون سفاكياناكيس” -كبير الاقتصاديين في مركز الخليج للأبحاث بالرياض- قوله إن “الأضرار التي لحقت بمرافق أرامكو قد تؤثر على شَهية المستثمرين للشراء في الشركة وتقييمها النهائي”.

فقدان السعودية لزمام السيطرة على هذه التداعيات، لم يدعها تنجحُ حتى في محاولاتها لتجاوز الكارثة “إعلامياً”، فبعد أن ادعت أنها ستعالجُ المشكلةَ في ظرف أيام وَأعلنت أنها ستعوِّضُ الخسائر من “الاحتياطي”، كشفت العديدُ من وكالات الأنباء الدولية، أمس، وعلى رأسِها “رويترز” وَ”بلومبرغ” أن عودةَ إنتاج أرامكو بالكامل سيستغرق “أسابيعَ وليس أياماً” في فضيحة أُخرى تؤكّـد على أن المِصفاتين المستهدفتين تعرضتا لتدميرٍ كبير، وهو ما يعني أَيْـضاً أن خسائرَ السعودية ستتضاعفُ بتكاليفَ كبيرةٍ لإصلاح ما دمّــرته الطائرات اليمنية.. فضيحةٌ تستوعبُ السوقُ العالميةُ أبعادَها بشكلٍ جيدٍ، فحتى الإعلانُ عن تعويض الخسائر من “الاحتياطي” السعودي في ظل هذا الوضع لن يُفلِحَ في خلق أيِّ نوع من الطمأنينة، وهو ما يعزز تحقُّقَ توقُّعات الخبراء بارتفاع سعر النفط سريعاً.

 

خياراتُ واشنطن: وقفُ العدوان أَو البكاءُ على “اللبن المسكوب”

على الجانب الأمريكي الذي كان معنياً بشكل مباشر بتلقي رسالة العملية، جاء موقفُ واشنطن في غاية الارتباك، إذ ركز بشكل رئيسي على محاولة التشويش على حجم وأثر العملية، حيث خرج وزيرُ الخارجية، مايك بومبيو، ليتهم “إيرانَ” بتنفيذ العملية، ويقول إنه “لا توجد أدلة على أن الهجومَ جاء من اليمن” في الوقت الذي أعلنت وزارةُ الطاقة الأمريكية أنها “مستعدة لتعويضِ النفط من احتياطاتها”.

وبتلك التصريحات، لم تكن واشنطن أفضل حالاً من الرياض في العجز عن التغطية على أثر “الصفعة” اليمنية”، فإيران أعلنت رفضَها لاتّهامات بومبيو، والعراق نفى أن تكون الطائرات المسيّرة انطلقت من أراضيه (وهو ما كان الإعلام الخليجي يحاولُ تكريسَه بعد تصريحات بومبيو) وجاء الرد العراقي مصحوباً بدعوة لإنهاء الحرب في اليمن أَيْـضاً في صفعة أُخرى لمحاولات التحريضِ الذي بحثت عنها السعودية في إدانات حلفائها.

هكذا انقعشت سحابة التضليل الأمريكي بسرعة، كاشفة عن الحقيقة التي ما زالت غيرَ قابلة للتغطية في مِصفاتي “بقيق” وَ”خريص”، وهي أن إنتاجَ النفط السعودي انحسر بنسبة النصف، ولن يعودَ إلى سابق عهده بسرعة، فلم تفلح تصريحاتُ وزارة الطاقة الأمريكية في التخفيفِ من تحذيرات الخبراء من ارتفاع أسعار النفط، كما لم تفلح تصريحاتُ بومبيو في تمييع الخسارة الاقتصادية سياسياً.

والواقعُ أن التناوُلَ السياسي والتحليلي لأبعاد العملية جاء بشكل معاكس تَمَاماً للاتّجاه الذي أرادته الولايات المتحدة والسعودية، إذ أكّـدت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن ترامب لا يمتلك الكثير من الخيارات للرد على الهجوم ضد منشآت أرامكو، وهو ما تحدث حوله مراقبون ذكّروا بأن “عملية توازن الردع الأولى” دفعت واشنطن إلى إعلان استعدادها للحوار مع “صنعاءَ”، وأنه لا يُستبعَدُ أن تدفعَها العمليةُ الثانية إلى مباشرة هذا “الحوار” واتخاذ خطوات للخروج من المأزق قبل أن تتلقى المزيدَ من الضربات الاقتصادية.

وبما أن النقطةَ المشتركةَ لمختلف تناولات وسائل الإعلام العالمية للعملية كانت “الفترة العصيبة” التي تنتظر سوق النفط، فقد ذكرت الكثير من التحليلات أَيْـضاً بقُرب انطلاق الحملة الانتخابية لترامب، الذي لن يستطيعَ التغلبَ على أثر الفشل الاقتصادي بتحميل إيران مسؤوليةَ الضربات، علماً بأن هذه الضربات تمثل في الأَسَاس جزءاً من تداعيات الحرب التي تواجه إدارةُ ترامب انتقاداتٍ متواصلةً بشأنها في الداخل الأمريكي.

هذه الأبعادُ تؤكّـدُ دقةَ رؤية القيادة اليمنية التي جعلت استهدافَ الاقتصاد السعودي طريقاً نحو وقف العدوان، إذ بات جلياً حجمُ الضغط التي تشكِّلُه الخسارةُ الاقتصاديةُ على الإدارة الأمريكية التي لم يعد هناك شَكٌّ بأنها أُمُّ العدوان وأبوه.

وفي هذا السياق، يحضُرُ أَيْـضاً “وعدُ” القوات المسلحة اليمنية بتنفيذ “عملياتٍ قادمةٍ أوسعَ وأشدَّ إيلاماً”، وهو وعدٌ تفرِضُ التداعياتُ الأخيرةُ على الولايات المتحدة أن تأخذَه بمنتهى الجدية، خَاصَّةً وأن عملياتِ توازن الردع أثبتت احترافاً يمنيًّا في انتقاء الأهداف وتوقيتِ الضربات، والاحتفاظ دَائماً بأوراق أكبرَ، فإذا ما تواصلت هذه العملياتُ يرجِّحُ بعضُ المراقبين أنه سيأتي الحديثُ بلا شَكٍّ عن “مضيق باب المندب” ومحطاتٍ أُخرى حسّاسة جداً، وحينها ستكونُ التحدياتُ أمام واشنطن وحلفائها أكبرَ من أية محاولات للمراوغة.