النباء اليقين

عطوان : لماذا يتعامل ترامب مع السعودية كماكينة “صرف آلي” ويريد تَحميلها مسؤولية إعادة اعمار سوريا ؟

الهدهد- مقالات

 

عبد الباري عطوان

حتى كِتابَة هَذهِ السُّطور لم يَصدُر أيّ رد فِعل رسميّ مِن المملكة العربيّة السعوديّة على “تَغريدةِ” الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب المُفاجِئة والمُهينة، التي قال فيها “أنها ستتكفّل بالمَبلغ المطلوب لإعادَة إعمار سورية بَدَلًا مِن الولايات المتحدة”، وتساءل “أتَرون أليس مِن الجيّد أن تقوم الدولة الفاحِشَة الثَّراء (السعوديّة) بمُساعَدة جِيرانها في عمليّة إعادَة الإعمار بدَلًا مِن دَولةٍ عُظمَى؟

أمريكا تبعد 5000 ميل.. شكرًا للسعوديّة”، نقول إنّها “تغريدة مهينة”، لأنّها تُوحِي بأنّ الرئيس ترامب يتَعاطى مع “حليفَته” السعوديّة كما لو أنّها ماكينَة صَرف آلي موضوعة تحت تصَرُّفِه، يُوجِّه إليها التَّعليمات وتَقوم بتَنفيذِها دونَ أيّ اعتِراض طالَما يمْلُك الأرقام السريّة.

الرئيس ترامب وقَّع قبل يومين قرارًا بسَحب جميع قوّاته مِن شمال سورية (تِعدادها 2200 جندي) وأوكَل مُهِمَّة التَّعاطِي مع الأكراد، حلفاءه الذين تخَلَّى عنهم لحليفه الآخَر الرئيس رجب طيّب أردوغان، في صفقة لا نعرف حتّى الآن تفاصيلها، وقال له “إنّها سورية كلها لك.. تصرَّف كيفَما تشاء” وها هو يضَع مسؤوليّة إعادة الإعمار على عاتِق حليفه السعوديّ الآخَر بتَغريدةٍ على حسابه على موقع التدوينات القصيرة “التويتر” ورُبّما دُونَ أيّ تنسيقٍ أو حتّى تَبليغٍ مُسبَق، مِثلَما يُمكِن رصده مِن خِلال رُدود الفِعل الصَّامِتَة.

***
اللَّافِت أنّ الرئيس الأمريكيّ الذي وَصَف الثَّراء السعوديّ بالفاحِش، لم يُطالِب دُولًا أُخرَى خليجيّة، مِثل قطر والإمارات بمُشارَكة السعوديّة في تَحميلِ هذا العِبء، ولم يُحدِّد أيّ مبالِغ، وهُناك تقديرات أوليّة تُقَدَّر تكاليف عمليّة إعادة الإعمار هَذهِ في حُدود 300 إلى 400 مِليار دولار.

الإدارات الأمريكيّة هِي التي وضَعت مُخطَّطات التَّدخُّل العسكريّ لتَغيير النِّظام في سورية، ووزَّعت الأدوار، وطالَبت حُلفاءها العَرب في الخليج وأوروبا تَمويله، وتسليح جماعات المُعارضة المُسلَّحة، وتسهيل تَدفُّق المُتَطوِّعين إليها، واعتَرف الشيخ حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر الأسبق، في أكثر مِن مُقابلة صحافيّة، أن بلاده لم تُنْفِق دولارًا واحِدًا في سورية دون التَّنسيق مع واشنطن ووكالاتها الأمنيّة المُختَصَّة، (وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة (سي آي إيه)، ويظَل السُّؤال هو عَن أسباب تَملُّص إدارة الرئيس ترامب مِن أيّ مسؤوليّة في عمليّة إعادة إعمار ما دمَّرته قوّاتها ومُخابَراتها ومُخطَّطاتها في سورية، وإلقاء هَذهِ المَسؤوليّة على الطَّرف السعوديّ فقط لأنّه يتَمتَّع بثَراءٍ فاحِشٍ، ولماذا يقبل هذا الطَّرف بهَذهِ الإملاءات دُونَ أيّ نِقاش؟

الرئيس ترامب اعتَرف أكثَر مِن مرّة أنّ بِلاده ضخَّت حواليّ 70 مِليار دولار في الحَرب على سورية ولم تَجنِ إلا “الصِّفر” في المُقابَل، ولا نَعتقِد أنّها خصَّصَت هذا المَبلغ الضَّخم جدًّا، لبِناء المُستشفيات والمدارس والجامِعات والمساجد والكنائس، وإنّما لتَدمير المُدن البُنى التحتيّة، والتَّسبُّب بقَتلِ مِئات الآلاف مِن أبناء الشَّعب السوريّ دُونَ أيّ رَحمة أو شفَقَة.

نتَّفِق معه في أنّ الولايات المتحدة تَبعُد خمسة آلاف ميل عن سورية، ولكنّنا نَختلِف معه في استخدام هذا العُذر للتَّهرُّب مِن عمليّة إعادَة الإعمار، ألم تَكُن بَعيدةً أيضًا عِندما جاءت بقُوّاتها وجُنودها لتَدمير سورية، أم أنّ بُعد المَسافة مُبرَّر في حالةِ التَّدمير، وغَير مُبرَّر في حالةِ إعادَة الإعمار.

إنّ تبَنِّي هذا الطَّرح لا يَعنِي مُعارَضتنا لمَبدأ قيام المملكة العربيّة السعوديّة بتَولِّي مَسؤوليّتها في المُشارَكة في عمليّة إعادة الإعمار، فنَحن نرى أن هَذهِ المُشاركة مُلزِمَة لها، قانونيًّا وأخلاقيًّا، لأنّها لَعِبَت الدَّور الأكبَر في تسليح الجماعات المُسلَّحة، وضَخَّت عشرات المِليارات في هذا الصَّدد، وفتَحت مَقَرًّا لقِيادة المُعارضة السوريّة في العاصمة الرياض (الهيئة العليا للمفاوضات)، وجرى تمثيل معظم الفصائل المسلحة فيها، باستثناء “الدولة الإسلامية” (داعش)، ونُضيف بأنّ دُوَلًا خليجيّةً أُخْرَى مِثل قطر والإمارات شارَكتها في هذا الدَّعم، والأُمور نِسبيّة فقَط.
***
قرار الرئيس ترامب بالانسحاب مِن سورية سِياسيًّا وعَسكريًّا وبشَكلٍ مُفاجِئٍ قد يَكون ظاهِرُه الاعتِراف بالهَزيمة، ومُحاوَلة تقليص الخَسائِر، وهذا أمْرٌ لا جِدال فيه، ولكنّه رُبّما يَكون أيضًا “قِناع” لمَشروع فِتْنَةٍ جديد بوجْهٍ آخَر، لخَلطِ الأوراق، وتوريط تركيا والسعوديّة، كُل مِنْهُما حسَب دوره في مُخَطَّطٍ جَديدٍ ما زالَت تفاصيله سِريَّة.
لا نُريد التَّسرُّع وإطلاق أحكام سابِقة لأوانِها، ولكن هذا لا يعنِي عدم التَّحذير مِن هذا المُخَطَّط الأمريكيّ الذي مِن أبرز عناوينه غَسْل الرئيس ترامب يدَيه مِن أزَمَةٍ كانت بلاده أوّل مَن بذر بُذورَها ورَعاها على مَدى السَّنوات الثَّمانِي الماضِية، ويُريد الآن تَجييرَها إلى دُوَلٍ عَربيّةٍ وإقليميّة، وعلى رأسِها تركيا والمملكة العربيّة السعوديّة، وتَكون الضحيّة فيها سورية ووِحْدَتها التُّرابيّة مَرَّةً أُخرَى.
نَعم.. نُدرِك جيّدًا أنّ سورية انتَصَرت ومِحوَرها المُقاوِم، وبَدأت تتعافَى مِن الكَثير مِن أدران المُخَطَّط الأمريكيّ المُتآمِر، ولكنّنا نَرى أنّ هُناك مَن يُحاوِل استِخدام “ذريعة” الإعمار لمُحاوَلة عرقَلة هذا التَّعافِي، وهو أمْرٌ يَجِب الحَذَر مِنه وشُروطه، ولا نَعتقِد أنّ القِيادة السوريّة التي أدارَت الأزَمَة باقْتِدارٍ طِوال السَّنَوات الماضِيَة غافِلَةٌ عَن هَذهِ المَسألة أو هكذا نَأمَل.. واللهُ أعْلَم.