النباء اليقين

عونٌ الأنصاري وعمَّار الإصلاحي!

الهدهد / مقالات 

مصباح الهمداني

ما أكثرَ الإشاعات التي يُروِّجُ لها العملاء، والتي يتم طبخها في فنادق ومقاهي الرياض، أو ملاهي وكباريهات القاهرة، أو مطاعم ومنتجعات أنقرة، لكنَّ الحقيقة تبقى ساطعة، ونور الشمس لا يخِيفه ولا تخْفيه نظارةٌ سوداء.

 

بالأمسِ والكاميرا تُلاحقُ الأسرى المُحررين وتنقل لنا قِصصهم استوقفتني إحدى القصص، بل وأدمَعت عيني، ورأيتُ كل مصيبة بعدها هينة:

 

عون الله أحمد الطَّيري؛ شابٌ في مقتبل العُمر؛ يلبي نداء الوطن منذ طلقة العدوان الأولى، ويترك أهله في يريم، وينطلقُ فارسًا بطلاً في الجبهات، ويقعُ أسيرًا في تعز قبل أربع سنوات، كما يقعُ الأبطال، بعدَ نفاذ الذخيرة، في المتارس المتقدمة، ويستقبله المرتزقة بالركل والضرب بأعقاب البنادق في فمه ورأسه، ويُسحبُ ويرمى فوق سيارتهم بعدَ تكتيف يديه وربط عينيه.

وتمر مراحل التعذيب كطبقاتٍ مظلمة بعضها فوق بعض، من سجنٍ إلى سجن، ومن زنزانةٍ إلى زنزانة، ويتفنن مرتزقة الإصلاح في تعذيب عون ورفقائه، ولا يتركوا وسيلة للتعذيبِ إلا وطبَّقوها، لكنَّ عون بعدَ تحرره ينسى كل شيء، إلاَّ الفترة المؤلمة، والعذاب المُهين، والوجع الشديد

يقول عون لمحدثيه:

لقد نسيتُ كل العذاب، إلا عذابَ ذلك الإصلاحي المُجرم عمَّار في سجن النيابة.

يبتسمُ عون وفي قلبه آهاتٌ تغلي كغلي إبريق الشاي، وقد عرفَ معنى المقولة التي قالها أحد أبناء تعز القُدماء” ياريت والله على زيدي ميِّت مربوط في شجرة، أضربوا لمَّا انغع غلبو”، آهات عون الصامتة تجُر خلفها أسئلةً مثقلة، تكادُ تنخلعُ لها عظامه” لماذا كل هذا الحقد في تعز؟” “لماذا يكرهون اصحاب صنعاء-على قولهم-مع أن صنعاء حُبلى بهِم وبمحلاتهم وبموظفيهم”، “لماذا يُصبحون في صنعاء؛ تبنٌ في ماء، وهُناك على الأسير قُساة أشداء؟” “هل هؤلاء أصحاب تعز الذين نعرفهم في المحلات والبسطات ؟” “لماذا يلبسون رداء المسكَنة عندنا، وهناك يفعلون بنا في الأسر مالا يفعله بشرٌ ببشر؟

شردَ عونٌ في ذكرياته، وجاء سؤال ليُخرجَ عمَّار من شروده:

ما هي أنواع التعذيب التي عذبك بها عمار هذا الذي تحدَّثت عنه؟

يأخذ نفسًا عميقًا، ويقول:

كل شيء يخطر ببالك فعله بنا هذا المِسخ الشيطاني من السب والشتم واللعن إلى الضرب بالعِصي والأسلاك، إلى السَّحب.

وتكادُ دمعةٌ نافرة أن تسقط من عين عون وهو يقول لمُحدثيه:

لقد ضربني بأنواع العِصي حتى تكسَّرت، ثم جاء بحديدة واستمر يضربني حتى انكسرت رجلي وانفصل العظم عن العظم، وقدمه على وجهي، وكلما ازددتُ صراخًا ازداد ضربا، رفعتُ رجلي فإذا بها تنعطف ولا تقوى على حمل بعضها.

 

يمسحُ عون وجهه، ولهيبُ الذكريات المؤلمة تُحرقُ قلبه ويُكمل حديثه:

ربطتُ قدمي بعدَ أن تعِب الجلادُ عمار، ومرَّت الأيام ولم تعد قدمي إلى سابق عهدها، وأصبحتُ أعرجًا كما ترى.

يُشير عون إلى جلده بحسرة ويقول:

تخيل أن هذا الجلد ليس جلدي السابق، فقد تم سلخه في زنازين النيابة على يد هذا المسخ الإصلاحي المُجرم.

يسأله أحد المُذيعين:

هل تتذكر اسم عمَّار وهل هو قباطي أم شيباني أم من أي أسرة حقيرة؟

يجيب عون ببطء وكأنما يستعيد شريط النداءات التي سمعها ويقول:

اسمه عمار محمد نايف.

يقاطعه أحد رجال الأمن:

هذا الإسم ليس غريبًا عليَّ “عمار محمد أحمد نايف”..إنَّه أسيرٌ لدينا.

 

يفورُ الدَّمُ في شرايين عون، ويكاد قلبه يتقطعُ من الغيظ، ويقول:

هل أنتم متأكدين أنه أسير عندنا؟

يتحرَّك عون بجسده الهزيل، وعينيه الغائرتين، وبخطاه المتعرجة، ويرافقه الضابط والمُذيع، ويقفُ عون عند بوابة السجن، ويشاهِد عمار وقد امتلأ جسمه باللحم والشحم، وانتفخت خدوده، وتلتقي النظرات، ويرتعش عمَّار، وتبدو عليه علامات الخوف والذل والانكسار، ويترقبُ أنواع العذاب أن تُصب عليه دفعةً واحدة، وحدَّث نفسه عن العذاب الذي يجب أن يفعله عونٌ به لكي يشفي بعض غليله، ينظرُ عمار إلى قدمه وكأنما يودعها للمرة الأخيرة.

لكنَّ عون يتراجعُ للوراء، ويتذكَّر فيُبصِر، يتذكر قائده الحليم، ويتذكر مسيرة القرآن التي ارتضاها واختارها، ويتذكر “والكاظمين الغيظ” ويعودُ أدراجه من حيثُ أتى، وتُلاحقه أسئلة الضابط والمُذيع:

أليسَ هو يا عون؟ ألا تُريد أن تسأله لمَ فعَل بك كل هذا؟

لم يُجبهم عون لكنَّه جلبَ بعض الفلوس واشترى العصائر والفواكه والطعام، وطلبَ العودة ثانية إلى السجن.

هناك التقت العيون ثانيةً وعمار الإصلاحي ما زالَت الأهوال تأخذه وتطرحه، لكنه رأى عون قد أقبلَ وليسَ في يده رشاش، ولا عِصي، ولا أسلاكًا كهربائية، ولا يلبسُ حتى الجنبية، وإنما يحملُ أكياسًا كثيرة، ويسير بها نحوه.

تقاربت المسافات وتسمَّرت أقدام عمار وتمنى أن تبتلعه الأرض، لكن عون يضع الأكياس، ويمد يده مصافحًا ثم يأخذ عمَّار إلى أحضانه، ويُردد:

كلنا يمنيين يا عمار. ثم التفتَ إلى الأكياس:

خذ هذا الطعام، وهذه الفواكه. وأخرج رزمة من النقود ودسها في جيب عمار وهو يقول:

وهذه مصاريفٌ لك.

عمار لا يُصدق ما يرى ولا ما يسمع، وفي عينيه دموع لا تتوقف، وأخذَ يتفحَّص وجه عون وحركاته، ويتساءل في نفسه”هل فقد عونٌ عقله ؟ هل أصبحَ مجنونًا؟هل نسِي كل ما فعلته به؟

ويأتي الجوابُ من عون ليقطعَ تلك الهواجس بصوت واثق مؤمن:

نحنُ مسيرة قرآنية يا عمار، ولا يُمكن أن نتعامل بالحقد ورد الإساءة، وأنت أسيرٌ عندنا.

ويسأله بسؤال مباشر:

أسألك بالله يا عمَّار هل عذَّبك أحد؟

يكفكف عمار دمعه، ويشير إلى جسمه ويقول:

انظر إلى جسدي لقد سمنت عندكم، ووالله ما وقعت على ظهري جلدة، ولا على وجهي لطمة منذ أُسِرتْ.

والله لقد توقعت أن تسحَبني خلف طقم وتلف بي صنعاء كلها فذلك أقل ما أستحق، جرَّاء ما فعلته بك.

وختامًا:

يعلم الله أننا نقرأ صفحات من سيرة وحياة هؤلاء العظماء المجاهدين، وكأننا نقرأ الصفحات الأولى من صفحات الأوائل الأخيار كعلي وبلال والحسين وزيد والحُر.

ألا يخجل الإصلاحيون من أنفسهم وهم يرون نماذج العفو والإحسان، فيما هم يختطفون السائرين والنساء، ويرتكبون أبشع الجرائم بحق الأسرى والمختطفين.

إن في قصصهم وقصصنا لعبرة للشعب اليمني من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه.

والله غالبٌ على أمره