النباء اليقين

لقاء

الكاتب:زينب الشهاري

عُدت، وقد رحلت لتعلمنا أن الغياب لإحضار الحرية شموخ والعودة من رحم المنية أسطورة، رحلت وفي ثنايا قصتك خفايا لم يقاسمك إياها في غياهب الأسر ووحشة البعد وفراق الأحبة وسياط السجان إلا وطن كنت تناجيه من بعيد فيشعر بك وأنت ترسل أشواقك إليه ويشاطرك ألمك وأنت تستعذب معاناتك لأجله وكلما جن الليل وغفت عيناك سارعت روحك ليتجدد بينكما اللقاء فتلثم ثراه وتحتضن سماه، ويواسيك ويقويك ويصبرك وينتظرك.

ومع الله وبالله كنت دائما في ثقة تامة بأن اللقاء قريب، فقوتك أرهبت أعداءك، وتحملك أرهقهم، وصبرك أرعبهم، وشجاعتك قتلتهم.

لم يكن لديهم خيار ولم يروا بُداً بعد هزيمتهم أمامك – وهم الذين لم يوفروا وسيلة ليقهروك وفي كل محاولة كنت تزداد قوة وعنفوان ويزدادون حقارة وخسة وخسارة – أن يعترفوا بنصرك عليهم ويعيدونك إلى وطنك أبياً شامخاً مع العظماء من زملاء الجهاد ورفقاء الأسر، من كنتم معاً في مقدمة الصفوف في ساحات الوغى وقاتلتم بجسارة ولأنكم كنتم عند الله أقرب كان امتحان صبركم وإيمانكم أكبر.

ها أنت عدت وكان كل شيء فيه يستقبلك، طيوره وأشجاره ونسمات عبيره، جباله وحبات رمله وشطآنه، وكأنما ارتجت السماء بالضحكات وتمايلت الأرض فرحاً بك، فهرولت روحك تسجد على محرابك المقدس، وتبعها جسدك فتركت كرسي الإعاقة وراءك وارتميت ساجداً على ثراه الطاهر حامداً وشاكراً ربك، وفي تلك اللحظة محيت كل سنين العذاب واختفت كل أوجاع الأيام وأعيدت لك الحياة من جديد.

أَخبروها بأنك قادم فارتعش جسدها واضطرب قلبها ونطقت عيناها بدموع حرى كشفت عن حجم الكربة وعظيم الصبر وفائق الفقد وسنين الحرمان، فأسرعت تحث خطاها وهي تلهج بالحمد والشكر للرحمن، ها هي بين الجموع الغفيرة لم يكف دمعها ولم يهدأ قلبها الذي ازداد ضجيجه كلما دنت لحظة الوصال، عيناها تفتش بين القادمين هاهي… وقعت عيناها عليك، تحاول الاقتراب منك، تمسح دموعها الغزيرة التي حجبت عنها تصفح ملامحك، تقترب منك وتدنو منك، تشعر بقربها، فتراها ويصيح قلبك “أمااااه”.

تقبل رأسها ويخبرك دمعها المنهمر كم أوجعها وأرهقها فراقك، وتخبرها إعاقتك كم عانيت في بعدها وغيابك، تقبل يديك… تتأمل قدميك وقد أقعدتا على كرسي متحرك فيتشظى قلبها ويحترق بالأسى، تضم يديها وتمسح دمعها من على خديها وكأنك تواسيها وتقول في سبيل الله يرخص كل غال فتفهمك وتوميء برأسها وتبتسم في رضا وتخبرك تنهيداتها العميقة وزفراتها الحارة كيف كان صبرك في سجون الأعداء زاد استمد منه الأحرار صموداً تلو صمود، وتخبرها ملامحك كيف كانت دعواتها قوة وعوناً ووقاء لك من شر الأعداء.

والتم الشمل وكان اللقاء، ويظل الكلام في حق أسرانا الأبطال قليل فأي الكلام يستطيع أن يقف أمام شموخهم؟! وأي صفات قد تطاول رفعتهم؟! وأي مديح قد يفيهم حقهم؟!