النباء اليقين

تكامل الرؤية واكتمال الدلالة في قصيدتي”الحاسمة” و”نهاية العاصفة” للشاعر /ضيف الله سلمان

 

إبراهيم محمد الهمداني

إن المتابع لمسار الحركة الإبداعية على الساحة الثقافية في اليمن خلال سنوات العدوان – التي شارفت على السنة الخامسة – سيجد أن المنتج الشعري، كان – وما يزال – الأغزر إنتاجاً، والأكثر حضوراً، والأقوى إكتساحاً، سواءً على مستوى الكم الإبداعي، أو على مستوى التأثير في الوجدان الجمعي، وقدرته في الارتقاء بالوعي، وصياغة مفاهيم ثقافية جديدة، تنطوي على موقف محدد، ورؤية واضحة، تؤسس لطبيعة العلاقة بين الذات والآخر، من منظور جديد ومغاير للقوالب التي كانت سائدة ومألوفة، التي غلبت عليها طبيعة الاستلاب للآخر، والتماهي فيه والتسليم له مطلقاً، تحت ذرائع القبول بالآخر والإنفتاح عليه، والتعايش معه.
يمكن القول إن الثورة على وصاية السفارات وهيمنة الآخر، قد رافقتها ثورة فكرية إبداعية شعرية توعوية ثقافية عامة، رسمت من خلال (شعر مرحلة العدوان) ما يقارب خمسة أعوام، أبعاد الثورة الفكرية اجتماعياً وإبداعياً وثقافياً، ورؤية وموقف الذات من الآخر، وطبيعة العلاقة معه، القائمة على مبادئ الندية والاحترام المتبادل، على قاعدة المصالح المشتركة، مع التمسك بالمبادئ الأساسية والثوابت، التي تحدد المواقف المبدأية من الأعداء الأزليون، من اليهود والنصارى.

استطاع الشعر أن يحقق حضوراً طاغياً، في مجموع أدب مرحلة العدوان، مقارنة بجوانب الأدب الأخرى، كالقصة والرواية والأقصوصة والفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي، التي كان حضورها خافتاً، أو متفاوتاً نسبياً في أحسن الأحوال، ومن بين مجموع النتاج الإبداعي الشعري، حضر الشعر الشعبي – قصائد وزوامل – مواكباً للأحداث لحظة بلحظة، مفسراً ومفلسفاً ومعلقاً وشارحاً ومصوراً وموثقاً أبعاد الجرائم وتفاصيل المأساة، وطبيعة المعاناة وتجليات الصمود وعظمة المقاومة والاستبسال، وبشارات الانتصار واقتراب تحقق الوعد الإلهي، عاكساً صورة المؤمن المتمسك بالله، المجاهد في سبيله، المنفذ لمشيئته، الواثق بنصره، مهما كانت مواضعات الواقع، وحسابات المنطق، ورهانات القوة مخالفةً لذلك.

في المقابل لم يحضر الشعر الفصيح كما يجب، وبما يليق بمكانته النخبوية، ودوره الريادي في حمل مشاعل الحرية والثورة ضد قوى الاستكبار والهيمنة، لكن المفارقة العجيبة أفصحت عن فراغ قيمي، وخواء أخلاقي، ونفاق أيديولوجي، لدى معظم شعراء الفصيح (النخبة)، الذين طالما بلغ ضجيجهم الآفاق، وهم ينشدون قصائدهم التي تحتفي بالحرية وترفض الوصاية، وتحمل قيم الحق والخير والسلام، وتقف إلى جانب الشعوب ضد الديكتاتوريات والملكيات، التي لا ترى في الشعوب سوى ملكية خاصة، وإقطاعية كبيرة، كل ما فيها ملكاً للحاكم وتحت تصرفه المطلق، بشرها وشجرها وحجرها وبرها وبحرها وهوائها و….إلخ، ولكن تلك الظواهر الصوتية سرعان ما خرست، وتلك المشاعل الوهمية انطفأت، وكان العدوان الصهيوسعوأمريكي، هو بؤرة السقوط، ومستنقع العمالة والخيانة، الذي سقطت فيه أبواق النخبة، التي سادت المشهد الثقافي اليمني عشرات السنوات، حيث خان الأيديولوجيات حاملوها، وارتمى القومي في أحضان المحتل الصهيوني، وسارع التقدمي إلى تقبيل أقدام السعودي الرجعي المتخلف، وغرق البوليتاري الليبرالي في سحر ابتسامة الرأسمالي الامريكي المصطنعة، مفتوناً بقوة الجلاد الكاوباوي، ووحشية الدرايكولا وهو يمتص ثروات الشعوب، ويتاجر بأشلائها وأحلامها.

لذلك تصدَّر الشعر الشعبي مهمة الدفاع عن الوعي الجمعي، ضد حملات الزيف والتشوية المتعمد، تحت مسميات إعادة الشرعية المزعومة، أو ذرائع النأي بالنفس والحياد، وكان اضطلاع الشعر الشعبي
بذلك الدور الريادي والقيادي، ترجمة فعلية وحقيقية، لطبيعة الدور الذي قامت به القبيلة – حاضنة الشعر الشعبي الأولى – في مواجهة العدوان، حيث حملت على عاتقها لواء التحرر والاستقلال، وقدمت التضحيات الجسيمة في سبيل الحرية والكرامة، في تنافس محموم بين أبنائها قل نظيره، بينما غابت معظم النخب السياسية والعسكرية والوجاهات الاجتماعية، في تمثيلها الرسمي عن ساحات الشرف ومقاومة العدوان، إلاَّ ما كان من بعض الشخصيات على المستوى الفردي.

تأتي هذه القراءة لقصيدتي “الحاسمة” و”نهاية العاصفة” في سياق بيان دور الشعر الشعبي في مواجهة العدوان على مختلف المستويات والأصعدة، وبيان جمالياته ودلالاته وطرائق بنائه وتشكله، وقد شدني في هاتين القصيدتين، طريقة بنائهما وترابطهما بنيوياً ودلالياً، وبالرغم أن كل قصيدة بنية كلية متكاملة بذاتها، إلاَّ أنهما في اجتماعهما يحققان تكاملاً رؤيوياً واكتمالاً دلالياً، وفي حين تمثل كل منهما مرحلة معينة، وتشهد على أحداث بذاتها، نجد أنهما باجتماعهما يمثلان مسرداً تاريخياً، يضج بالأحداث والوقائع، تتجسد فيه شعرية الصورة، وجماليات التعبير، وعمق الدلالة، وفلسفة التاريخ والحياة.

الحلقة الأولى”الحاسمة”

تأتي أهمية العنوان من كونه أول مفاتيح القراءة، التي تفتح للمتلقي مستغلق النص وشفراته، حيث يسميه جيرار جينيت ” عتبة النص”، التي لا يمكن العبور إلى النص إلَّا من خلالها، ويرى غيره من النقاد في العنوان “نصاً موازياً للنص الأصلي”، كونه يعبر عنه ويدل عليه، بما يمتلكه من قدرة هائلة على الاختزال والاحتشاد الدلالي، وتكثيف كل الممكنات التعبيرية والمحمولات الدلالية في البنية العنوانية.

يقال:- حسم فلان المعركة بضربة، أي أنهاها وقطع استمرارها، وحسم أمره؛ أي:- بتَّ فيه بتاتاً لا رجعة فيه، وقطع اتصاله زمنياً وفعلياً، وأنهى آثاره وتداعياته، والحسام:- السيف القاطع، وفي ذات السياق الدلالي تأتي ” الحاسمة” لتدل على النهاية الفاصلة، والخاتمة القاطعة لما قبلها عن ما بعدها، والحد الذي تتوقف عنده مرحلة ما.

من جماليات العنوان، أنه يفتح فضاء التلقي، ويلقي بالمتلقي في متاهات تساؤلات لا نهاية لها، خلافاً لمدلولاته، فيلعب التأويل لعبته بكل حرية، وتصبح كل قراءة للعنوان – بوصفه نصاً موازياً – نصاً موازياً للعنوان نفسه، يحاول الإجابة على تساؤلاته اللانهائية، التي تقابلها قراءات لانهائية، وهنا تكمن براعة المبدع/ الشاعر، وتتجلى مقدرته في استخدام مفردات اللغة، وتوظيف ممكناتها التعبيرية، في بلوغ النص المفتوح، المتجدد بانفتاحه على آفاق التلقي اللانهائية.

يستهل الشاعر خطابه الشعري بالنداء، مستغلأ ممكناته الدلالية والبلاغية، ليلفت انتباه المخاطب ويشده إليه، وينبهه إلى ضرورة الإصغاء لما سيقوله، نظرا لأهميته، فبالرغم من أن المخاطب كما هو معروف، حاضرٌ بتوجيه الخطاب إليه، إلَّا أن توجيه حرف النداء إليه علاوة على ذلك، يؤكد أنه المعني الأول بفهم المراد، والمخصوص الرئيس بما يلقي القول، ومناداة التحالف في صورة حضوره الجمعي، يقابلها المنادي/الذات/المتكلم في صدوره عن التمثيل الجمعي، وكونه نائباً عن الجماعة ومتحدثاً بلسانهم، وهنا يحضر التكافؤ المتوازي على مستوى الحضور الفعلي، بين المتكلم/الشاعر/ الشعب، والمخاطب/التحالف المعتدي.

غير أن إضافة الصفات إلى المنادى في سياق النداء ذاته، ينقل دلالة النداء من مستواها الأول المتواضع عليه والمعروف – المذكور سلفاً – إلى مستوى أوسع ومدار أكبر، لتتجاوز دلالة النداء لفت انتباه المخاطب واختصاصه بالمراد، إلى لفت أنظار وأسماع كل من يقف مع ذلك العدوان، ومن تواطأ معه أو وقف متفرجاً عليه، إلى طبيعته الوحشية التي ترسمها أفعاله وجرائمه.

” يا تحالف تمادى واجرما
واعتدى بالحروب الظالمة”

وعوضاً عن الجواب المنتظر من المنادى، أو المتوقع من السامعين الحاضرين – حقيقةً أو مجازاً – بالإشارة إلى ذلك المنادى، ترتسم الدهشة والذهول على أفواههم، متسائلة عن قصدية النداء، وإلى أي مدى سيصل المتكلم في ندائه التهكمي.

” بعد هذا التخبط والعمى
أبشر أبشر بسوء الخاتمة”

” كل فرعون بايبكي دماً
مننا والنهاية صادمة”

إن المعنى السطحي الأولي، لا يشفي غليلاً، ولا يحمل لتائه دليلاً، ولا يهدي ضالاً في متاهات المعنى سبيلاً، فليس من المعقول، أن تنادي مجرماً ظالماً، تمادى وأمعن في إجرامه وعدوانه وظلمه بحقك، ثم تتوجه إليه بكلام هو من الحقائق والمسلمات، لتبشره بسوء الخاتمة، كما حصل لفرعون، لأن المقام ليس مقام وعظ ونصح وإرشاد، إذ لا علاقة ل”الحاسمة” بهذا الكلام البديهي، لكن البحث عن المعنى العميق، يحيلنا إلى ترابط خفي، بين العنوان” الحاسمة” و”سوء الخاتمة” و”النهاية” الصادمة، وبهذا يعود الكلام إلى سياقه الطبيعي، وتتراسل الدلالات وتتناسل فيما بينها، من خلال اجتماع دلالات “الحاسمة” وسوء” الخاتمة” و”النهاية الصادمة”، التي تمثَّل الشاعر/المتكلم محمولاتها الدلالية في حضوره الطاغي، المقاوم لذلك التحالف الإجرامي الظالم.

“من في احضان الامريك ارتمى
مستحيل أن تقم له قايمة”

” قل لمن عاث في سفك الدما
ضربة الله تاتي قاصمة”

“سوَّد الله وجهه مثلما
صورته بالمجازر قاتمة”

تتراسل مدلولات النهاية الحتمية، لترسم صورة المخاطب/المنادى/التحالف الإجرامي، في آخر لحظاته، يتجرع ويلات النهاية والفناء، من خلال مدلولات الارتماء في أحضان أمريكا، بما يحمله من مدلولات الفناء والتماهي في الآخر/الأمريكي، بما يفقد الذات المرتمية حقيقة وجودها ومعنى تحققها، ويعزز ذلك المعنى ويقويه بحقيقة مفادها؛ تظافر عوامل الغياب الكلي، واستحالة نهوضه مرة أخرى، وكذلك الشأن لمن عاث في الأرض فساداً، وسفك الدماء بغير وجه حق، فإن عقوبة الله له بالمرصاد، وضربته القاصمة للجبابرة والمستكبرين ستكسرهم وتحيلهم إلى قطع صغيرة.

تحضر مدلولات الشطر الثاني “ضربة الله تاتي قاصمة” لتعزيز حضور الذات، ووقوفها وجها في مواجهة طواغيت الأرض، من عاثوا في سفك الدماء، وهنا تمعن الذات المتكلمة في تعزيز وتقوية حضورها، مستعينة “بضربة الله القاصمة”، لتحيل وجود الإجرام الفعلي إلى كسر متناثرة، يعقبها النهاية والزوال، وتحضر دلالة اللون في “سوَّد، قاتمة” في البيت الأخير من هذا المقطع، لتحيل الآخر إلى هالة من السواد في ليل سرمدي حالك، لتعبر عن مستوى آخر من مستويات النهاية والغياب والفناء، الذي سيحسم وجود ذلك التحالف، ويضع حداً لإجرامه وطغيانه.

“من علينا اعتدى بايندما
باتجي له عقوبة صارمة

حسبنا الله منهج قيما
ما خشينا في الله لايمة

شعبنا بالولا والانتما
واجه اقوى الحروب الغاشمة

زلزل اعتى القوى واتقدما
وافشل العاصفة والناعمة

ما رمينا هو الله من رمى
بالصواريخ او بالحايمة

عاد سيل العرم بايدهما
بايخلي الممالك جاثمة”

تتجلى في هذا المقطع روعة الإبداع الشعري، من خلال تنويع مقامات حضور الذات، ما بين حضور قوي متفرد، في مواجهة ندية ضد تحالف الإجرام المعتدي، ثم الحضور المتفرد المستعين بقوة الله، والمذكِّر بقوته وجبروته وانتقامه من الظالمين، ثم في هذا المقطع تفسح الذات المتكلمة حيزا مكانيا على المستوى الإدراكي للذات الإلهية، التي هي العون والسند، ومنها التوفيق والتسديد، لترتسم صورة من الحضور المتوازي بين الذات المتكلمة صاحبة الفعل المتحقق في “واجه، زلزل، أفشل، رمينا”، والذات الإلهية المساندة للذات المتكلمة بالأفعال الإدراكية الميتاحركية في “حسبنا الله، ما خشينا في الله، هو الله من رمى”، لتصبح الذات المتكلمة في اتحادها بمصدر قوتها – الذات الإلهية – أكثر قوة وحضورا وقدرة على المواجهة والتصدي لهذا التحالف الإجرامي العالمي، الذي أفرط في إجرامه وتوحشه، ظنا منه أنه بمنأى عن العقوبة، وأن بإمكانه أن يفني هذا الشعب المستضعف، الذي لا سلاح له إلا الولاء لله ورسوله وأعلام الهدى، والانتماء إليهم قولا وفعلا ونهجا ومنهجا وسلوكا، وفي هذا المقطع يبدأ حضور الاخر / التحالف المعتدي في الخفوت والاضمحلال، نظرا لما سيلحقه من ” ندم، وعقوبة صارمة”، وما يحمله من دلالات ترسم سلبية الاخر المتلقي للندم والعقوبة، يضاف إلى ذلك دلالة المسكوت عنه بين من يكتفي بالله منهجا وكافيا ودافعا لكل شر وضر وسوء ومكروه، ومن يكتفي بغير الله تعالى، راكنا إلى قوته وتحالفاته وأمواله، وبين من لا يخشى في الله لومة لائم، بينما غيره يخشى لوم القوى العظمى، ويسعى لكسب ودها وإرضائها، وبين من تولى الله ورسوله وأعلام الهدى، مواجها أعتى القوى، وأشرس الحروب الظالمة الغاشمة، ومن تولى غير الله ورسوله وأعلام الهدى، وركن إلى أوليائه من اليهود والأمريكان، ليكونوا عونا له في حروبه الظالمة العبثية، وممارسته لإجرامه وتوحشه.

تحضر الذات الإلهية من خلال الذات المتكلمة كقوة فاعلة في صنع معادلة الصراع الكوني بين الخير والشر، والحق والباطل، ويحضر “سيل العرم” كمعطى تاريخي، يعيد إلى الأذهان قصة انهيار سد مأرب، ولكن في سياق مغاير لسياقه التاريخي، فإذا كانت المعطيات التاريخية تحيلنا إلى انهيار سد مأرب، وخراب أرض الجنتين، فإن “سيل العرم” في تموضعه الحالي، يرسم نهاية حتمية لممالك الرمال، التي هي بعض تحالف العدوان، والممول الرئيس لغاراته وعملياته، وبذلك يتحول “سيل العرم” من تموضعه الطبيعي، المتمثل في كميات الماء الهائلة، إلى سيل بشري/ طوفان بشري يجتاح ممالك الرمال، ليسويها بالأرض، او يحيلها جثة هامدة، وكلها تحمل مدلولات الغياب والفناء والنهاية.

“واي طاغوت بالغرب احتمى
له من الله لعنة دايمة

باذن رب السما بايهزما
هذه الحرب قد هي حاسمة

والذي ما فهم بايفهما
بيننا في الشهور القادمة”

ترتسم صورة الاخر/ الطاغوت مفرغة من محتواها ومدلولات جبروتها وقوتها، من خلال تموضعها في سياق الخطاب الشعري، محتمية بالغرب، وقد حاقت بها اللعنة الدائمة والهزيمة، في حرب حاسمة قاطعة لجبروته وطغيانه، ولم يعد أمام ذلك الاخر غير فناء متحقق وغياب مطلق، أعقبه تهديد شديد اللهجة، الذي أصدرته الذات المتكلمة من موقع القوي والقادر على تنفيذ ما هدد به، لتبقى “الشهور القادمة” ، المجال الزمني المفتوح، لوقوع الضربة القاضية الحاسمة الأخيرة، كما في قولى تعالى:- “فانتظروا إنَّا معكم من المنتظرين” ، وقوله تعالى:- “فتربصوا إنَّا معكم متربصون”.

إن ارتباط الحسم المرتقب بالتوقيت الزمني ” الشهور القادمة”، قد منح النص نهاية مفتوحة، تفتح آفاق التلقي على مصراعيه، وتمنح النص تأويلات وقراءات لا نهائية، جاعلة من النص المركزي فضاءً مفتوحا لها، تتلاقح فيه الأفكار، سعيا نحو الاكتمال، من خلال الإضافات التي تقدمها مسارات التلقي وإعادة إنتاج النص، وتتلاقى “الحاسمة” ب “الشهور القادمة” ، لتسير في ذات النسق الدلالي المفتوح، فيما يسمى تعانق البدايات بالنهايات، وهذه السمة من أهم مرتكزات بناء النص الحديث، وموضع جمالياته، التي تمنحه الديمومة والاستمرار، بعكس النص المغلق أحادي الدلالة.

استمد الشاعر معجمه الشعري من ثقافته القرآنية، وتدينه العالي، وإلمامه بمعطيات النص القرآني ومضامينه، ولذلك اتسمت البنية النصية بقواعد الاستدلال العقلي والحجاج المنطقي والشواهد الواقعية، التي تؤسس في مجموعها لخطاب عقلي، يقدم الحقائق ويسعى لإثباتها، وهذه السمة الخطتبية العقلية المباشرة، تخالف طبيعة الخطاب السعري، التي ترتكز على معطيات الخيال والوجدان والعاطفة، غير أن المفارقة تكمن في أن الشاعر استطاع أن يكسب نصه الشعري، قدرا كبيرا – إن لم نقل هائلا – من الشعرية، من خلال مهارته العالية في توظيف الصورة، واستخدام تقنيات التصوير اللحظي الثابت، كما في قوله:- “سوَّد الله وجهه” ، والصورة المتحركة/ المقطع، كما في قوله:-
“من احضان الامريك ارتمى
مستحيل ان تقم له قايمة”

فالمقطع التصويري هنا يرسم عملية الارتماء في أحضان اليهود والنصارى، حيث يبدأ التصوير بحركة الارتماء، ويتوقف بعد تمام هذه الحركة بالفعل، لتكون آخر ما تنقله لنا كاميرا الشاعر، هو ما يرتسم على ملامح الاخر من مظاهر الاستلاب والاستخذاء والركون لذلك الحضن الاستعماري، تاركة للمتلقي صياغة النتيجة الكارثية لذلك الارتماء، وكذلك برع الشاعر في تقنية التصوير المشهدي، ولم يكتفي بتقديم مشاهد الواقع كما هي، بل أضاف عليها بصمته ولمساته الإبداعية واحترافيته، حيث قدم مشاهد مفتوحة زمنيا، من الحاضر إلى المستقبل، الذي لا حد يقيني لوقتيته، من خلال ربط المشاهد بتنبؤات مستقبلية، ترسم ملامح طفيفة لنهايات غامضة، أقصى ما يبلغه المتلقي إزائها، هو التنبؤ والاحتمال والتكهن لا غير، كما في قوله:-

“عاد سيل العرم بايدهما
بايخلي الممالك جاثمة

والذي ما فهم بايفهما
بيننا في الشهور القادمة”

ورغم ما توهم به “الشهور القادمة” من تحديد زمني، إلا أنه يظل في إطار المستقبل الممتد من ما بعد الآن إلى ما شاء الله تعالى، وتبقى نقطة النهاية الزمنية مجهولة، كغموض الحدث الذي سيجعل تلك الحرب حاسمة ونهائية، وبهذا ينفتح القادم من الزمن على حدث غامض، يتأرجح في مدار زمني واسع، لتحضر قصيدة “نهاية العاصفة” ، في مدار الاكتمال الدلالي والتكامل الرؤيوي.
فما الذي ستجيب عنه هذه القصيدة؟ وهي تضع المتلقي في دوامة من التساؤلات اللانهائية، مثل: كيف؟ وأين؟ ومتى؟ وماذا ؟ و… إلخ.